"بعد شروق الشمس بقليل، وبعد أن توالى البرق والرعد بشدة، اهتزت الأرض الثابتة وارتجت، ثم ارتد البحر بأمواجه الهادرة وتراجع عن اليابسة، وعندما فتحت هاوية الأعماق، ظهرت الكائنات البحرية على اختلاف ألوانها، وهي تتمرغ في الوحل، وأصبحت الوديان السحيقة والمرتفعات، التي طالما أخفتها الطبيعة تحت الأمواج معرضة لأشعة الشمس".. هكذا رأى أميان مارسيلان من مؤرخي القرن الرابع الميلادي، الزلزال البحري الشديد، الذي ضرب الإسكندرية، قبل أن يعرف العالم كلمة "تسونامي" وتفسيرها العلمي قبل ما يزيد عن 1500 عام، وقت حكم الإمبراطور الروماني فالنتينيان الأول.
واستخدم المؤرخ الألماني المعاصر مانفريد كلاوس كلمة "تسونامي" اليابانية "أمواج ساحلية"، في كتابه "الإسكندرية أعظم عواصم العالم القديم"، تحت عنوان "يوم الفزع"، والذي أورد فيه خبر المؤرخ أميان عن زلزال عام 365 الذي ضرب ساحل البحر المتوسط عند الإسكندرية مصحوبًا بعواصف شديدة تتبعها فيضانات قوية من وقت لآخر، "لقد بدت الكثير من السفن وكأنها قد سقطت على اليابسة، والبعض الآخر من هذه السفن راح يتحرك على المياه الضحلة، التي تشبه المستنقعات، وراح من كانوا فوق هذه السفن الصغيرة يجمعون الأسماك والحيوانات البحرية بأيديهم".
ويقول الراوي والكاتب الوثني ليبانوس من مدينة أنطاكية "عاصمة سورية قبل الفتح الإسلامي"، "إن الأمواج العاتية حطمت مدنا كثيرة في فلسطين وفي كل ليبيا وكل مدن صقلية تحولت إلى حطام، كما حطمت الأمواج كل جُزر اليونان ماعدا نيكايا الجميلة، وكذلك مدينة أنطاكيا".
"أميان" يسبق العلم الحديث في وصف "تسونامي" كُل تلك الأوصاف التاريخية لزلزال إسكندرية العصر الروماني، ما هي إلا شرح بليغ للتعريف العملي الأكثر دقة، الذي وضعته الأمم المتحدة لاحقا لـ"موجات تسونامي"، "تتألف كلمة "تسونامي" من الكلمات اليابانية "تسو" (بمعنى الميناء) و "نامي" (بمعنى موجة) .
تسونامي هو عبارة عن سلسلة من الموجات الضخمة التي أنشأتها اضطرابات تحت الماء ولها عادة علاقة مع الزلازل التي تحدث في الأسفل أو بالقرب من المحيط. ويمكن أن يتسبب ثوران البراكين والانهيارات الأرضية الغواصة، وتساقط الصخور الساحلية أيضا في تولد تسونامي، كما يمكن لكويكب كبير أن يؤثر على المحيط. إنها تنشأ نتيجة الحركة العمودية في قاع البحر والتي تتسبب في نزوح الكتلة المائية، وتظهر موجات تسونامي في كثير من الأحيان كجدران من الماء ويمكن أن تهاجم الشاطئ وتصبح خطرة لعدة ساعات، مع قدوم موجات كل 5 إلى 60 دقيقة.
" تعود الأمواج الغاضبة بعد ذلك تتحرك في الاتجاه المعاكس، ضاربة الجزر الصغيرة والمدن محطمة الآلاف من المباني، مسببة الكثير من الخراب والغرقى، مغيرة وجه الأرض تماما. لقد غرق الكثير من السفن في هذا المد والجزر القاسي، وأصبح طبيعيا أن يرى المرء موتى محمولين على ظهور الأحياء أو آخرين طافية أجسادهم فوق سطح الماء ووجوههم مطمورة إلى أسفل في المياه"، يقول أميان، ويسير على دربه العلم الحديث، "قد لا تكون الموجة الأولى هي الأكبر، ولكن غالبا ما تكون الموجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو حتى الموجات اللاحقة هي الأكبر، وبعد أن تفيض موجة واحدة، أو تفيض في المناطق البرية، فإنها تتراجع في اتجاه البحر في كثير من الأحيان بقدر ما يمكن للشخص أن يرى ذلك وبالتالي يصبح قاع البحر معرضا للخطر أو مكشوفا. وبعد ذلك تندفع الموجة المقبلة إلى الشاطئ خلال دقائق وتحمل في طياتها الكثير من الحطام العائمة التي دمرتها موجات سابقة".
وعرف العالم مصطلح "تسونامي" بعد كارثة 1896 في بلدة تارو الساحلية باليابان، وصفتها صحيفة الأهرام بأنها "أشهر الكوارث", التي تروى للتذكير الدائم وللعبرة، حيث ابتلعت موجات تسونامي 1900 شخص من سكان البلدة، وهو ما يوازي نحو ثلاثة أرباع تعدادها.
8 زلازل ضربت الإسكندرية على مدار 6 قرون
ووفقا لـ"كلاوس"، فقد أحصى كل من الكتاب العرب والإغريق نحو 8 زلازل في مدينة الإسكندرية في الأعوام 320، 365، 551، 796، 951، 956، 1203، 1303 ميلادية، ولكن لم يكن هناك في كل هذه الزلازل أسوأ ولا أشرس تدميرا وتخريبا من زلزال عام 365 ميلادية. وهذا ما ستدحضه رواية تاريخية أخرى في القرن الرابع عشر الميلادي سنوردها لاحقا.
ويعتقد العلماء أن تسونامي عام 365 ميلادية يرجع إلى زلزال مدمر للغاية بالقرب من شواطئ جزيرة كريت، لدرجة أنه جعل قاع البحر عند الشواطئ المصرية يرتفع ويتحول إلى أرض زادت عليها طبيعة الدلتا المتغيرة.
زلزال 1302 "الزلزلة العظيمة".. عندما اضطربت الأمواج
في عهد السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، هاجم ثغر الإسكندرية زلزال عظيم أشبه بموجات "تسونامي"، وعن ذلك يقول الأمير المؤرخ بيبرس المنصوري، الذي عايش هذا العصر، في كتابه زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، "كانت الزلزلة عظيمة حتى أن الجزر تساقطت والمباني تهدمت والصخور تقطعت والمياه من خلال الأرض تفجرت ومادت الأرض بمن عليها وماجت المساكن بساكنيها".
وأورد "بيبرس" ذكر مصطلح "الغَطْمَطَةُ"، وهي في قواميس اللغة العربية تعني "اضطراب الأمواج"، مشيرا إلى حدوث فيضان بحري بكلامه، " وفاض البحر الملح وطمى وتغطمط الماء وأغرق قماش القصارين وكسر قوارب البحارين وقطع مراسي المراكب الفرنجية وطرح أكثرها إلى الأسوار والشعاب، ولما عاين أهل الثغر هيجان البحار وانهدام المنار وتساقط المآذن والأسوار وتناثر الأحجار من الجدران وتداعي الأركان المشيدة البنيان بادروا مسرعين وخرجوا من باب السدرة هاربين".
يقول المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" عن زلزال 702 ه، "هلك تحت الأنقاض خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، ولم يكن لأهل مصر عهد بمثل هذه الزلزلة ولا ألف شيوخها المعمرون مثلها، إذا كانوا لها مستهولين"
في الخامس من نوفمبر الماضي، أحيت الأمم المتحدة، ذكرى اليوم العالمي للتوعية بأمواج تسونامي، بعد نحو شهر تقريبا من التسونامي الذي ضرب إندونيسيا، وأسفر عن مصرع 1400 شخص ونزوح 60 ألف شخص بعدما تهدمت منازلهم.
وتشير دراسة نشرت في مجلة مختصة بعلوم الأرض تابعة للاتحاد الأوروبي تسمى "أوشين ساينس"، عرضها موقع "يوريشيا – ريفيو" الياباني، إلى أن عددا من الباحثين الأوروبيين طوروا نموذجا لمحاكاة تأثير التسونامي الذى ينتج عن الزلازل والهزات الأرضية، وطبقوا هذا النموذج على منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وأظهرت نتائج الدراسة "كيف يمكن أن تضرب موجات التسونامي المناطق الساحلية في جنوب إيطاليا واليونان وتغمرها".
وخلال المنتدى العربي الإفريقي للحد من مخاطر الكوارث الذي عقد في تونس، في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن الدكتور أحمد علي بدوي، رئيس قسم الزلازل بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، أن منطقة شرق المتوسط من المناطق المعرضة لمخاطر حدوث موجات التسونامي، وتأتي في المرتبة الثالثة على مستوى العالم من حيث شدة التهديد ودرجة الخطورة، وتعتبر الإسكندرية من بين المدن المهددة حال إن وصل "تسونامي" إلى مصر
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر