كانت روسيا منهمكة في تعداد انتصارات قواتها في سورية وأفضالها على السوريين، بمناسبة مرور سنتين على غزوها للبلاد، حين فوجئت بمقتل أسيرين من المرتزقة الروس على يد "داعش".
فما كان من وزارة الدفاع إلا أن نفت النبأ على الفور، مؤكدة أن لا أسرى عسكريين روسًا في سورية.
ووعد الكرملين بالتحقق من هوية الرجلين اللذين "يُزعم أنهما روسيان".
ولم يأت الإعلان عن مقتل الجنديين الروسيين في "الوقت المناسب"، فالزمن هو للإحتفال بانتصارات السلاح الروسي، الذي جعل من موسكو "اللاعب الأكبر" في الشرق الأوسط، ومنح "الفتوة" الروسية فرصة لإطلاق العنان لصلفها وعنجهيتها.
جائزة "نوبل" للسلام، ما كان ينبغي أن تُمنح للحملة العالمية لحظر السلاح النووي، بل للقوات الجوية الروسية صاحبة الفضل الأكبر في هزيمة "الإرهاب" في سورية، كما يرى كونستانتين كوساتشيف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في "مجلس الإتحاد الروسي".
فالسلاح النووي هو "السند الأهم في الوقت الراهن للتوازن الإستراتيجي الشامل، وهو يمنع محاولات الإبتزاز النووي من جانب بعض البلدان"، كما يعتبر كوساتشيف.
والمذبحة السورية كانت "ساعة حظ " للطائرات الحربية الروسية "سوخوي"، كما يرى أحد الخبراء العسكريين الروس.
وسفن الإنزال الروسية، التي تشكل ما يسمى "الأكسبرس السوري"، الذي يتولى، منذ سنوات، نقل الأسلحة والذخائر وكل وسائل القتل والدمار الى سورية، كما ترى صحيفة الكرملين "vzgliad".
وانخراط روسيا في المذبحة السورية هو "أفضل عملية حربية" خاضتها روسيا، وحولت سورية إلى "حقل تجارب لجميع تصاميم الأسلحة الجديدة للمجمع الصناعي الحربي"، كما ترى صحف أخرى.
لكن "الفتوة" الروسية مدينة "بانتصاراتها" في سورية، لا للسلاح فقط، بل ولمرتزقتها الذين يرسلون إلى سورية، وينكر في الوقت عينه معرفته بوجودهم، تماماً كما فعل في شرق أوكرانيا. ويقول شقيق أحد القتيلين من ضواحي موسكو في مقابلة مع إذاعة "الحرة": "نعم شقيقي من المرتزقة، يغرونهم بالمال ويرسلونهم إلى الذبح، ثم ينكرونهم. أسست الدولة جيشاً خاصاً باسم "فاغنر"، وهو من جماعتها ".
ويقول إن شقيقه قاتل في الشرق الأوكراني في العام 2014 في صفوف "الفيلق السلافي"، الذي تحول لاحقاً إلى "فاغنر"، وأن آلاف الشباب الروس قتلوا هناك. ويتساءل؛ لماذا لا تنشئ روسيا قوات نخبة رسمية من هؤلاء "المقاتلين بدل أن يستخدموهم لحم مدافع"، ثم يتنكرون لهم حين يقتلون، ولماذا يخفون كل ذلك؟ مع العلم أن الرئيس بوتين نفسه، كان قد قائد منح "فاغنر" ومساعديه المقربين أوسمة في الكرملين.
فلماذا تُمنخ الأوسمة رسمياً لقيادة هذه الشركة العسكرية الخاصة، بينما يتم التنكر للمقاتلين على جبهات القتال، حين يصابون أو يقتلون؟
ويؤكد الشقيق للإذاعة، أن الإعلان الرسمي عن جيش "فاغنر" الخاص، سيلزم القيادة الروسية بالإعلان عن الأرقام الحقيقية للخسائر البشرية في سورية، إذ أن "الخسائر هناك هي أكثر بكثير"، مما يعلنون.
وينقل عن أحدهم، ممن قاتلوا في سورية في صفوف "فاغنر"، ولم يعد ثانية إلى هناك، لأنه "سئم هذه القذارة"، أن مجموعة من المرتزقة الروس، تتكون من حوالي 60 شخصاً، وقعت السنة الماضية في حقل ألغام "ومات الشباب ميتة رخيصة".
ويختتم حديثه بالقول: "لا يجوز إرسال الناس إلى الموت مجموعات، مجموعات، ثم التنكر للأمر. فنحن نُمثّلُ مصالح الدولة، لا مصالحنا الخاصة".
كما تحدثت إلى الإذاعة عينها ايضاً صديقة القتيل الآخر من مدينة روستوف، تحت اسم مستعار، بالطبع. تقول هذه السيدة إن "فاغنر" تدرب مقاتليها في قاعدة عسكرية رسمية في منطقة كراسنودار، وتعد المقاتلين بدفع مبلغ كبير: 240 ألف روبل في الشهر، (حوالي 4000 دولار). وفي الحقيقة، لا يدفعون لهم سوى 160 ألفاً.
ويدفعون لذوي العسكري القتيل بين 1.3 مليون و3 ملايين روبل، حسب رتبته ومهمته. وتقول إن العقد، الذي يوقعه المقاتل مع "فاغنر": "يقف شعر الرأس حين تقرأه"، ويُحظرُ على ذوي القتيل الإطلاع عليه، كما يحظر عليهم فتح النعش والتعرف إلى جثة القتيل. وتقول إنهم علموا بمقتل صديقها في 26 أيلول/سبتمبر، ولم يتسلموا الجثة إلى الآن.
وقد أبلغوهم في مطار روستوف أنه قد وصل في 28 الشهر الماضي 12 نعشاً إلى المطار، وتسلمها مندوب "فاغنر"، ولم يبلغهم المندوب بشيء عن جثة قتيلهم.
وتقول السيدة إنهم علموا بمقتل الرجل من "مصادر جانبية"، أي من أشخاص يتواجدون حالياً في سورية. وتصادر "فاغنر" من مقاتليها هواتفهم الشخصية ويمنع الإتصال بأهلهم في روسيا، وكانت آخر رسالة تلقاها ذوو القتيل المعني في 13 أيلول/سبتمبر، ويقول فيها: "ما زلت على قيد الحياة، لكننا لا نستطيع الخروج. كل شيء مُلَغّم".
أما لماذا تجنّد الرجل للقتال مرتزقاً في سورية، فتقول السيدة: "يُعلِنُ الرئيس بوتين أن الحد الأدنى لكلفة المعيشة في منطقة روستوف هو 33 ألف روبل. أنا موظفة في الدولة، وأتقاضى 13 ألف روبل. كيف يمكن العيش بمبلغ كهذا؟". ومن الطبيعي، لذلك، أن يسعى "الرجال الطبيعيون" لكسب نقود أكثر.
وقد وفر صديقها القتيل خلال مهمته الأخيرة في سورية، التي دامت 5 أشهر، مبلغ مليوني روبل، على حد قولها. هؤلاء "الرجال الطبيعيون" يذهبون بأنفسهم إلى موتهم المحتم، كما تقول، "لكن، على الأقل، يجب أن يُدفن الإنسان، على نحو طبيعي". فالشركة "فاغنر"، بحسب العقد، ليست مسؤولة عن نقل جثة القتيل إلى وطنه.
ومع أنهم يفعلون ذلك، على حد قولها، إلا أنه عليهم إبلاغ ذوي القتيل بمكان وجود النعش، حتى يتمكنوا من دفنه، "ونحن لا نعلم شيئاً، حتى الآن، عن مكان وجود الجثة، وما إن كانت قد وصلت أم لا، مع أننا اتصلنا بجميع مواقع تشريح الجثث. وتقول إنه لا يمكن الإتصال بممثل "فاغنر" المسؤول عن استلام النعوش الآتية من سورية، مع أن اسمه معروف من قبل الجميع.
وتقول السيدة، إن شحنات الجثث تصل إلى المطار "باستمرار".
وآخر مرة سافر إلى سورية، في أيار/مايو، 58 شخصاً، وبقي منهم "بحسب معلوماتنا" حتى الآن 11 شخصاً فقط، من دون أن تحدد ما إذا كانوا قد قتلوا، أم عادوا إلى منطقة روستوف. ولدى سؤالها، ما إن كانت ترى، إن كان على روسيا أن تغادر سورية أم لا؟ قالت "من الأفضل أن يعمل بوتين على ترتيب شؤون روسيا، وليس هناك في مكان ما. لدينا الكثير من الناس بدون مأوى، وهو ينفق هناك مبالغ طائلة لقصف داعش".
يجب حماية روسيا من "داعش"، وليس القتال ضدها هناك. وأضافت: "محق جيرونوفسكي حين قال إن روسيا تساعد الجميع، لكن الروس أنفسهم يعيشون في الممرات". وتؤكد السيدة، إنها لم تنتخب بوتين في حياتها، "لأن جدتي عملت عشرات السنين في المصنع، وتتقاضى 8300 روبلاً معاشاً تقاعدياً. كيف يمكن العيش بمثل هذا المبلغ؟".
ما اعتادت روسيا، أن تحصي في الحروب قتلاها، وما اعتادت أن توظف "انتصاراتها" في تطور روسيا والاهتمام بشؤون شعوبها، كما تقول السيدة. و"الانتصارات"، التي تحققها على السوريين الآن، لن تكون استثناءً، بل اختارت أن تسجلها باسم "المرتزقة" من عسكرييها، الذين تتنكر لهم في حياتهم، وترفض أن تدفنهم، كما يُدفن البشر، بعد مماتهم.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر