صنعاء ـ اليمن اليوم
ستنتهي الحرب الأهلية في اليمن بعد أن يكون اليمنيون قد أحالوه إلى أطلال بلد مدمر على المستويات كافة لكن أخطرها على الإطلاق سيكون مشهد التمزق الاجتماعي والمذهبي والمناطقي والذي تتجلى ملامحه في أكثر مدينتين كانتا تتميزان بتنوعهما المذهبي والثقافي وكانتا تمثلان النموذج المدني الذي يتمنى أغلب اليمنيين تكراره في بقية المناطق، ولكن المؤكد أن هذا المشهد قد اختلف وما عاد إلا سرابًا، وسـأتناول هنا الحالة التي نشاهدها في مدينة عدن.
كان من المثير للدهشة القرار الذي اتخذه الحوثيون بالتوجه إلى عدن بعد استكمال عملية السيطرة على عمران ثم صنعاء وتوجهوا بعدها إلى تعز، لكنهم سرعان ما ركزوا جهدهم العسكري للسير نحو عدن وليس معروفًا ما حدث بالفعل ودفعهم لاتحاذ ذلك القرار الانتحاري الذي كلفهم عددًا ضخمًا من القتلى بعد مقاومة شديدة من أبناء عدن وتدخل جوي وبحري من قوات التحالف، ولم تكن أعداد الضحايا ولا دمار المدينة هما المحصلة المحزنة الوحيدة لذلك الفعل الأحمق ولكن الأشد إيلامًا كان انفجار الكراهية والحقد ضد كل ما هو شمالي، ونال أبناء تعز في البداية النصيب الأكبر من الاتهامات بمساندة الحوثيين وتعرض عدد منهم لعملية طرد جماعية، لكن السلطة المحلية استطاعت السيطرة علـى الأمر ومنعت استمرار تلك الممارسات.
وأعاد اقتحام الجنوب مرة أخرى إلى الأذهان حرب صيف ١٩٩٤ التي كان صالح وحلفاؤه في صنعاء يدعون أنها كانت "تعميدًا للوحدة بالدم" ولكنها في الواقع ألحقت بالجنوب دمارًا نفسيًا كبيرًا وتم بعدها إقصاؤه من مركز القرار الفعلي وتهميشه سياسيًا باستثناء بعض الذين ارتبطوا بمصالح شخصية، وكان بعض الجنوبيين يعبرون بالتصرفات المنفلتة عن رد فعل مكبوت اختزنوه في ذاكرتهم الجمعية ضد الشمال وخاصة تعز، ومثلت الحرب محفزًا نفسيًا لاستعادة الروايات القديمة عن دور أبناء تعز بعد الاستقلال وخلال أحداث يناير/كانون ثان ١٩٨٦، وشارك في صياغة المشهد عناصر جنوبية خسرت الصراع على السلطة في ٨٦ ثم أصبحوا جزءً أصيلاً من حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي كان يرى هو أيضًا في الأمر فرصة لإضعاف الجميع وخلق فجوات نفسية تصور أنها ستساعده في ترسيخ حكمه وأن يصبح حكمًا بين الأطراف وملجأ لها في خلافاتها.
مثّل دخول الحوثيين ثم إخراجهم من عدن والمحافظات الجنوبية فرصة لأصحاب مشروع "استعادة الدولة الجنوبية" لتأكيد رؤيتهم ولقيادة الشارع وصارت أصواتهم الصاخبة الغاضبة هي الأعلى والأكثر تأثيرًا في الشارع الجنوبي واعتبر هؤلاء أنفسهم ممثلين لسكان اليمن الجنوبي ودعوة الانفصال سواء عبر قيام دولة اتحادية من إقليمين أو بقيام دولة كاملة الاستقلال عن اليمن الشمالي، ومازلت علـى قناعة ويقين أن قبول أحد المسارين هو الأسلم لليمن كاملاً حتى يستعيد البلد توازنه النفسي، غير أنني أكرر أن تحقيق هذا الأمر يتطلب شرطين أساسيين: "تحديد ممثلي الجنوب ومعرفة قدرتهم الحقيقية على حشد الناس خلف شعاراتهم، والشرط الثاني: هو معرفة موقف الرئيس هادي ورئيس حكومته ووزرائه الجنوبيين من الأمر".
الجنوبيون لهم الحرية في اختيار طريق المستقبل وليس لأحد الحق أن يفرض عليهم توجها محددا وفي الوقت نفسه على قياداتهم توحيد كلمتها والتجمع في كيان جنوبي موحد يخاطب اليمنيين أولاً والإقليم والعالم، كما أنهم مدركون أن أمر استعادة دولتهم ليس قرارًا داخليًا فقط ولكنه يحتاج إلـى قناعة إقليمية ودولية بـأهميته لاستقرار المنطقة ولا يجب الاستخفاف بالأمر والاعتقاد بأنه يمكن فرضه على الجيران لأن تأثيراته لن تقف عند الحدود ولكنها حتمًا ستتعداها، ومن هنا فإن من الحتمي دراسة القضية من جوانبها كافة دون تبسيط وتوهم أنه شأن داخلي في زمن زالت فيه أهمية الخطوط الجغرافية وحلّت محلها ارتباط المصالح الوطنية بمصالح الجيران والعالم.
والأهم في الأمر أن ينتهي القرار الجنوبي إلى نقل اليمن إلى ساحة من التعايش بين أبناء الشمال والجنوب كما كان الحال أيام الإمام في الشمال والاستعمار البريطاني في الجنوب، أي حدود مفتوحة وتنقل بدون عراقيل ونقاط تفتيش ما سيؤدي إلى تعايش بين شعب واحد في إقليمين أو دولتين.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر