في الساعة الثانية بعد ظهر يوم على أبواب الخريف، أقرّر التوقف لتناول طعام الغداء في قرية «ريكالموتو» خلال رحلتي الأخيرة إلى صقلية. ليس لجمالها أو لشهرة مطاعمها، بل لأنها مسقط رأس شاعر الجزيرة ومفكّرها الأكبر «ليوناردو شياشيا» الذي أوصى بأن يدفن بين كرومها المطلّة على البحر.
أسأل صاحبة المقهى الصغير عن مطعم، فتجيب بكل يقين: «هذا وقت الغداء، لن تجد مطعماً يستقبلك!». وبعد أن تأكدت من صحة كلامها، اكتفيت بقطعة حلوى «تارالّي» أسدّ بها الجوع، مدركاً أن الواقعيّة الساحرة ليست وقفاً على منطقة الكاريبي كما خلّدها غارسيّا ماركيز في روائعه، بل هي من أنماط الحياة العادية في هذه الجزيرة المزروعة في قلب المتوسط، والتي يتهافت عليها أكثر من 15 مليون سائح كل عام للتمتّع بمفاتنها.
بحرٌ يلمع كالمرايا، تراث فنّي قلّ نظيره في العالم، ضوء فريد يهبط من سماء لا تجدها إلّا فوق هذا البحر، وتنوّع ثقافي نادر يتهادى على صدر جزيرة تنام عند إقدام البراكين بين أوروبا وأفريقيا.
أهلا بكم في صقلية، حيث بإمكان الزائر أن يندهش أمام الهياكل اليونانية والرومانية، وروائع المعمار العربي والفسيفساء البيزنطية والقصور النورماندية والكنائس البارّوكية، ثم يتنزّه قرب بركان لم يهدأ فوران غضبه بعد، قبل أن يستريح عند شاطئ تتهالك عند أطرافه مياه بلّورية مرّت عليها كل الحضارات منذ أقدم العصور.
الرحلة إلى صقلية قد تقتضي العمر بكامله، لكننا سنحاول اختصارها ببعض المحطات التي لا تستغرق أكثر من أسبوع واحد.
- مدينة شياكّا
نبدأها في مدينة «شياكّا» التي تتراكم بيوتها الملّونة حول المرفأ الجميل وفوق وسطها التاريخي الذي يعود إلى القرون الوسطى، وحيث تقوم مجموعة من القصور الأنيقة التي تختزن روائع فنّية نادرة ما زال الأخصائيون يحاولون إلى اليوم فكّ بعض رموزها. مطاعم الميناء التي تقدّم أشهى أنواع الأسماك الطازجة هي محطة لازمة بعد التجوال على المعالم التاريخية، وقبل الاستراحة في واحد من أقدم المنتجعات الصحّية في العالم، والذي يقصده الزوّار منذ خمسة وعشرين قرناً لمداواة الآلام المفصليّة بالمياه المعدنيّة الغنيّة بالكبريت وبخار الأعشاب العطرية. وإذا صادفت زيارة المدينة في فبراير (شباط)، فلا بد من المشاركة في الكرنفال الشهير الذي تُحرق في نهايته تماثيل ومجسّمات ينكبّ على إنجازها فنانون من أنحاء الجزيرة وخارجها طوال أشهر.
- آغريجنتو
محطتنا الثانية هي «آغريجنتو» والهياكل الإغريقية الموجودة في أرباضها، والتي تغنّى بها الشاعر الألماني «غوتيه» في عدد من قصائده ومؤلفاته. وتعتبر هذه الهياكل من أجمل الآثار الإغريقية خارج اليونان، وتستحق أن يخصص لها يوم كامل لزيارتها. ليس ببعيد عنها يوجد «وادي الهياكل» والآثار اليونانية، التي تستقطب أكبر عدد من السيّاح في الجزيرة، ويبرز من بينها «معبد الوئام» الذي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد وكان النموذج الذي استوحت منه منظمة اليونيسكو شعارها المعروف.
- مدينة فافارا
وعلى بعد دقائق من «آغريجنتو» تقع مدينة «فافارا» التي تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مركز فني يلتقي فيه مبدعون محلّيون ودوليون، وتنظم ندوات وورش عمل ثقافية طوال العام، ما أعاد الحياة إلى هذه المدينة التي كانت تعاني من أزمة بطالة خانقة. وقد تحوّلت واجهات المباني إلى لوحات فنّية ضخمة، وانتشرت المنحوتات في الشوارع والساحات العامة تضفي على المدينة طابع متحف في الهواء الطلق.
- نوتو وراغوسّا
نتجه بعد ذلك إلى «نوتو» و«راغوسّا»، وهما من أجمل المدن البارّوكية في الجزيرة، حيث يجري تصوير المسلسل التلفزيوني الأشهر في إيطاليا «المفتّش مونتالبانو» للروائي المعروف «آندريا كاميلّيري». الروائع المعمارية في هاتين المدينتين لا تحصى، والمناظر الطبيعية المحيطة بها تحبس الأنفاس، ومغرياتها من الأطباق التقليدية الشهيّة والحلوى اللذيذة جعلت منها محجّة لعشّاق الطهي وموئلاً لعدد من أهم المطاعم في الجزيرة.
كثافة الطراز المعماري البارّوكي في «نوتو» جعلت منها قبلة المخرجين السينمائيين الإيطاليين والعالميين، الذين اختاروها لتصوير عشرات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية. وفيها أيضا «مقهى صقلية» الذي يعتبره العارفون صاحب أفضل بوظة (جيلاتي) في العالم، وحلويات «بوناجوتو» أقدم صانع للشوكولا في صقلية منذ القرن السابع عشر عندما كان يستورد الكاكاو مباشرة من أميركا اللاتينية ويفنّن في مزجه مع المنتوجات المحلّية التي تشتهر بها صقلية مثل الفستق الحلبي واللوز والقرفة والبرتقال.
- بركان إتنا
نترك المدن الصغيرة والقرى المنثورة على هضاب صقلية، ونتجّه إلى جوار «إتنا» الرابض على علو 3342 متراً عن سطح البحر، مشرفاً على الجزء الشرقي من الجزيرة كأكبر بركان ناشط في أوروبا، ما زال يقذف الحمم الملتهبة بانتظام من فوهاته الأربع التي تكلل الثلوج إحداها، وتحيط بالأخرى مساحات جدباء مطمورة تحت طبقة كثيفة من الحمم السوداء التي تمتد عند أطرافها غابات الحور وكروم العنب. وعلى الناحية الجنوبية من البركان يوجد مصعد كهربائي ينقل السيّاح قرب فوهته التي تبعد أربع ساعات سيراً على الأقدام من القاعدة.
نذكّر هنا بأن هذا البركان شهد أعنف ثوراته في التاريخ عام 1669 عندما قذف من فوهته 800 مليون متر مكعب من الحمم، وتسبب في تسونامي قضى على ثلثي سكّان منطقة «كاتانيا» المحيطة به.
- تاورمينا وسافوكا
نواصل طريقنا في اتجاه «تاورمينا»، ونتوقّف قبل 20 كيلومتراً من الوصول إليها في واحدة من أشهر القرى في تاريخ السينما العالمية «سافوكا» التي اختارها المخرج الأميركي فرنسيس فورد كوبولا مسرحاً لفيلمه الشهير «العرّاب»، بعد أن تعذّر تصويره في قرية «كورليوني»، مسقط رأس «دون فيتو»، لأسباب أمنية. المواقع التي تدور فيها أحداث هذا الفيلم ما زالت على حالها تقريباً، وبخاصة مقهى «فيتلّي»، حيث باح مايكل بحبّه إلى «آبولونيا» وطلب يدها. ما زال يقدّم شراب الليمون المثلّج «غرانيتا» الذي أدمن عليه كوبولا خلال تصوير الفيلم.
نغادر «سافوكا» إلى «تاورمينا» الملقّبة بلؤلؤة صقلية، وحيث يوجد أحد أجمل المسارح الرومانية في العالم، مشرفاً على زرقة البحر الصافية في ظلّ جبال تكللها الثلوج معظم أيام السنة. وقد تحوّلت هذه المدينة منذ سنوات إلى ملتقى عالمي لعشّاق السينما الذين يأتون للمشاركة في مهرجانها الشهير وما يرافقه من مظاهرات فنّية.
- باليرمو
نتابع طريقنا نحو باليرمو التي تمازجت فيها كل الحضارات وتركت بصماتها الفنّية والثقافية في مبانيها وعاداتها ومطبخها، والتي يقال عنها إن «ما لا يعرف ماذا يحصل في باليرمو، لا يمكن أن يفهم ماذا يحصل في إيطاليا».
أوّل ما نقترحه على الزائر في هذه المدينة هو تناول الطعام في الشارع، حيث إن باليرمو تعتبر محجّة عالمية لظاهرة Street Food مثل بانكوك ومراكش وسنغافورة، حتى يخيّل إليك أن سكّانها لا يتوقفون عن تناول الطعام على مدار الساعة. والمطبخ هنا يغيّر المفهوم السائد عن المطبخ الإيطالي عموماً، ويكاد لا يشبهه إلا بنسبة ضئيلة جداً.
وإذا كان التأثير العربي باديا في كل مظاهر الحياة الفنية والاجتماعية واللغوية في صقلية، فهو يتجلّى بوضوح في الأسواق الشعبية المنتشرة في جميع أحياء المدينة، حيث يعتاد السكّان على التسوّق كل يوم في أجواء مماثلة لما هو مألوف في البلدان العربية. لكن أهل باليرمو يقولون إن هذه المدينة التي تعاقب عليها الفينيقيون والإغريق والرومان، ثم العرب والإسبان، هم الذين تأثروا بمفاتنها وليس العكس، كما يتبدّى من عزّها الآفل في القصور والمباني والشوارع والأسواق الشعبية.
باليرمو تستحقّ المكوث فيها أياماً لزيارة معالمها الأثريّة والفنية الكثيرة، وسبر أغوار هويتها التي تكمن في أعماق النفسية الإيطالية التي تمازجت فيها حضارات وثقافات شتّى. وخير ختام لزيارتها هو في كاتدرائية Monreale التي تعتبر من أهم إنجازات الفن النورماندي في العالم. كما يطغى عليها الطراز المعماري الإسلامي، حيث إن صقلية كانت تحت الحكم العربي قبل دخول النورماند إليها في القرن الحادي عشر. وتتميّز هذه الكاتدرائية الكاثوليكية الفريدة من نوعها، بالفسيفساء البيزنطية، المقصورة عادة على الكنائس الشرقية، إذ استخدم فيها 2200 كلغ من الذهب الخالص لإنجازها الذي استغرق 7سنوات.
قد يهمك أيضًا:
سنغافورة تردم البحر لبناء ناطحات سحاب وتفكر في التوسع
لقطات مروّعة ترصد ثورة بركان "إيتنا" في جزيرة صقلية الإيطالية
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر