القاهرة _ اليمن اليوم
لم تكن مقابر المصريين القدماء مجرد أماكن لدفن الموتى بقدر ما كانت قصورًا أبدية، ينعم فيها المتوفي بحياة جديدة في العالم الآخر، بعد رحلة قضاها في عالم الأحياء لسنوات على الأرض أعد نفسه فيها ماديًا وأخلاقيًا للفوز بحياة أبدية أكثر أمنا في "حقول السلام".
اعتقد المصري قديما أن جسد المتوفى تدب فيه روحه، عائدة إليه في مقبرته، ليبدأ رحلة جديدة في العالم الآخر لذا سعى المصريون إلى اتخاذ التدابير اللازمة والمحكمة التي تكفل حماية المقابر من السرقة، مع ترهيب اللصوص بعبارات التحذير والنصوص الدينية الرادعة حفاظًا على أثاث المقبرة الجنائزي من السلب والنهب، حتى يُكتب لصاحبها الخلود.
وعلى الرغم من حرص المصريين الشديد على توفير الاستحكامات الأمنية كافة لم تسلم مقابر الملوك من جرائم السرقة، باستثناء مقبرة الملك الشاب توت عنخ آمون التي غابت عنها أعين لصوص مصر القديمة، لتكشف بجلاء عن روعة ما كانت عليه مقابر الملوك والملكات، وحجم الثراء الفني والإبداعي الذي شهدته عصور إمبراطورية الدولة الحديثة، بحسب التقسيم التاريخي لعصور مصر القديمة.
وتبارى المصريون في غرس قيم وتعاليم أخلاقية تعلي من شأن عدم انتهاك حرمة المقابر أو العبث بها وبمحتوياتها تجنبًا لانتقام الآلهة، كما ورد في نص من تعاليم الملك خيتي الرابع لابنه مريكارع من الأسرة العاشرة يقول له:
"لا تضر منشأة الغير، اقطع الأحجار من المحاجر، وشيّد مقبرتك بما قطعته يدك من أحجار".
وأكد هذا المبدأ نقش آخر ورد في نصوص مقبرة القاضي "حتب مري آخت" في عهد الملك "ني وسر رع" من الأسرة الخامسة يقول فيه إنه:
"بناها من أملاكه دون أن يغتصب شيئا من الآخرين، وفي مكان ظاهر حيث لم تكن هناك مقبرة أخرى، وأولئك الذين سيدخلون إليها ويمسونها بسوء سيحاكمون أمام الإله العظيم".
كما دأب أصحاب المقابر على نقش عبارات ترهيب تتوعد كل من تسول له نفسه انتهاك حرمتها، كنقوش ظهرت في عصر الأسرتين الخامسة والسادسة تحذر اللص بأنه: "سيُحاكم على فعله أمام الإله الكبير".
ونقش آخر على مقبرة كبير كهنة الملك منكاورع يقول:
"كل من يحب الملك والإله أنوبيس الذي يسمو فوق جبله، لا يأتي بأذى لمحتويات هذا القبر".
اعتقد المصري القديم أن الإنسان يعيش حياة واحدة على الأرض، وحياة أخرى بعد الموت، بعد محاسبته على أعماله أمام "ميزان العدل"، فاعتقد منذ عصور الدولة القديمة تحديدا أن بإمكانه الحصول على الجزاء والنعيم الأبدي اعتمادًا على الجانب المادي المتمثل في امتلاكه السلطة والثروة، وأن جودة الأثاث المادي الموضوع إلى جانبه في المقبرة يضمن له حسن الجزاء، فحرص على أن يأخذ معه كل متعلقاته من حياته الأولى، ليستخدمها في حياته الثانية.
وتشهد مقابر عصور ما قبل التاريخ على وجود بعض الطعام والشراب والقطع الفخارية إلى جانب المتوفى، مع بعض الحلي البسيطة. وفي ظل تنامي نفوذ الدولة اقتصاديا، وارتفاع مستوى المعيشة في المجتمع في عصور لاحقة، حوت المقابر أثاثا من أفخر الأنواع وتماثيل بمختلف الأحجام، إلى جانب الحلي الفاخرة المصنوعة من الذهب، والأحجار الكريمة، والمعادن النفيسة، فباتت مطمعًا سخيًا للصوص ذلك الوقت.
ويرجع انتشار سرقة المقابر في مصر القديمة إلى فساد الجهاز الحكومي، وانهيار منظومة "الحقيقة والعدالة" التي جسدتها الإلهة "ماعت"، ربة العدل التي حفظت الفكر المصري من الفساد الأخلاقي والديني. كما تراجع الوازع الديني على مستوى الطبقة الشعبية بعد أن رصد البسطاء فساد الكهنة وتكالبهم على نهب ثروات المعابد، بل وصل الأمر إلى حد اشتراك بعض الكهنة في سرقات المقابر، كما ورد في بردية "هاريس" المحفوظة في المتحف البريطاني.
وكان للأزمات الاقتصادية التي عصفت بالشعب المصري عقب انهيار نفوذ الدولة القديمة مبلغ الأثر في اضطراب الأحوال الاجتماعية. كما شهد النصف الثاني من حكم الأسرة العشرين تراجع في قيمة النحاس المصري، وأصبحت خزانة الدولة عاجزة عن الوفاء بمستحقات بعض العمال، فانتشرت السرقات.
وترى كلير لالويت، أستاذة الأدب المصري القديم بجامعة باريس-سوربون، أنه "توجد أزمنة تصبح فيها حاجة المرء إلى التصدي للبؤس وإلى البقاء على قيد الحياة شغله الشاغل وأقوى بكثير من السنن المقدسة، ليبرز مشهد محزن جدا للضياع المادي والأخلاقي في بلد بات يؤخذ على ملوكه الضعف وتراجع النفوذ".
ويرصد تاريخ مصر القديم بدايات مبكرة لسرقة مقابر الملوك، عندما أشار إلى تشييد الملك سنفرو، مؤسس الأسرة الرابعة، مقبرة لزوجته الملكة "حتب حرس" إلى جوار هرمه الذي شيده في منطقة دهشور، فاعتدى اللصوص على مقبرتها في عهد ابنها الملك خوفو، الذي لم يجد حيلة سوى نقل أثاث مقبرة والدته سرًا إلى منطقة الجيزة، وحفر بئر جنوب هرمه. وحافظ الكهنة من وقتها على طقس لعنة لصوص المقبرة حتى نهاية عصر الدولة القديمة.
وحفظت نصوص برديات مصرية قديمة، مثل بردية "إبوت" و"هاريس" و "أمهرست"، تفاصيل عمليات سطو على مقبرة في نهاية عهد الملك رعمسيس التاسع، ومحاولة البعض سرقة مقابر ملكية في البر الغربي لمدينة طيبة، مثل مقبرة "سخم رع- شدتاوي- سوبك إم ساف"، من ملوك الأسرة ال17، ومقبرة الملكة "إيزيس" زوجة الملك رعمسيس الثالث.
وتتلخص قصة نهب مقبرة "سخم رع" أن أحداثها وقعت في عهد الملك رعمسيس التاسع، عندما أبلغ "بورعا"، أمير البر الغربي لمدينة طيبة، رئيس الشرطة عن سرقة مقابر ملكية في المنطقة. وعلى الفور، شكل عمدة المدينة الوزير "خعمواست" وساقي الفرعون "نسآمون" لجنة تحقيقات لفحص المقابر المبلغ عن سرقتها، وعددها عشر مقابر.
وخلصت لجنة التحقيق إلى حدوث اعتداء بالفعل على مقبرة "سخم رع"، وتوصلت الشرطة إلى الجاني، وكان شخصا يدعى "أمنبنفر"، عامل بناء في معبد آمون-رع.
وسجلت النصوص المصرية القديمة محضرا لاستجوابه غير منقوص مفعما بالحيوية، نورد مقتطفا منه نقلا عن الترجمة الفرنسية للعالم فرانسوا دوما في كتابه "حضارة مصر الفرعونية"، إذ يقول اللص:
"توجهنا كعادتنا لسرقة المقابر، ووجدنا هرم سخم-رع-شدتاوي، ابن رع سوبك إم ساف، وكان هذا الهرم لا يشبه شيئا على الإطلاق، من أهرام ومقابر النبلاء التي اعتدنا سرقتها، أخذنا معنا أدواتنا النحاسية ودخلنا عبر ممر داخل هرم هذا الملك ومن خلال أكثر أجزائه عمقا... وعثرنا على زوجته الملكة (نبخعس) موجودة إلى جواره".
"وجدنا الملكة ترقد على نحو مماثل وفتحنا التوابيت حيث كانا قد سجيّا، ووجدنا مع المومياء المهيبة لهذا الملك خنجرا، وحول رقبته الكثير من التمائم والحلي الذهبية، ويغطيه قناعه الذهبي، والمومياء المهيبة مغطاة بكاملها بالذهب وتوابيتها مزدانة بالذهب والفضة في الداخل والخارج، ومرصعة بالأحجار الكريمة. جمعنا الذهب الذي وجدناه فوق هذه المومياء المهيبة، وأيضًا ذهب التمائم والحلي التي حول رقبته وذهب التوابيت التي كان يرقد فيها. كما وجدنا الملكة على نفس الحال، فجمعنا أيضا كل ما وجدناه فوقها وأشعلنا النار في التوابيت...".
لم تكن سرقة المقابر عملًا مارسه المصريون وحدهم، بل تذكر نصوص أخرى مشاركة أجانب في سرقات، مثل قضية رجل يدعى "بيكامن" أتُهم بالسرقة، وأجريت معه تحقيقات واعترف بجريمته. كما تذكر النصوص تبرئة رجل مصري يدعى "دجاي"، اتُهم زورا بسرقة مقابر، وأثبتت التحقيقات براءته من التهمة.
وتشير بردية "ماير" إلى واقعة سرقة مقبرة الملك رعمسيس السادس، إذ أدى خلاف اللصوص على اقتسام الغنيمة إلى افتضاح أمرهم.
ومنذ عهد الملك رعمسيس العاشر، جُرد الملك من لقب "الإله الطيب" الذي كان لصيقا به، في دلالة على سوء الأحوال وتراجع الثقة واضطراب سلطة الملوك.
ركز اللصوص على سرقات مقابر الملوك تحديدًا، نظرًا لتمتع هؤلاء الملوك، بحسب الفكر العقائدي المصري القديم، بحق الحياة في العالم الآخر بصحبة الإله في مملكته السماوية، ومن ثم كان لابد من تجهيز مقابرهم بكل نفيس يليق بهذه المكانة السماوية. وحفظ لنا الأدب المصري القديم نصوصا تشير إلى هذه الفلسفة كهذا المقتطف:
"أيها الواحد الطاهر، تربع على عرشك في سفينة رع، واسبح في السماء، وعش أنت هذه الحياة الطيبة التي يحياها رب الأفق".
وظلت الأخلاق "وقود" حياة المصري قديما حتى ينعم بالبراءة والطُهر في العالم الآخر، فألزمت العقائد الدينية الجميع على حد سواء بالبرهنة على أهليتهم لهذا النعيم الأبدي، حتى الملوك. وهذا ما عبّر عنه الأدب المصري القديم طبقا لبردية نافيل، في الفصل 125 من نصوص كتاب "الخروج إلى النهار"، المعروف اصطلاحا باسم "كتاب الموتى"، وفقا للترجمة الفرنسية للعالم بول بارجيه، الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ليون، للنص المصري القديم:
"لم أرتكب ظلمًا بحق البشر، لم أسئ معاملة الناس، لم أرتكب خطايا في ساحة الحقيقة، لم أسع لمعرفة المحظور، لم أرتكب شرا، لم أبدأ يومي برشوة من الناس الذين يعملون لدي، ولم يرد اسمي عند رئيس العبيد، لم أسب الإله، لم أبخس الفقير رزقه، لم أقترف ما هو مشين للآلهة، لم اجعل عبدا يعصي سيده، لم أسبب ألما، لم أتسبب في جوع أحد، لم أتسبب في بكاء أحد، لم أقتل..... (إلى آخر ما يطلق عليه باعترافات البراءة)".
ويبرهن النص على حرص المصري على إعلان البراءة أخلاقيا من منطلق شعوره بالمسؤولية، ورفض كل ما يتعارض مع القانون وينتهك الفضائل تجنبًا للجزاء الإلهي، وحافزا لتجنب عقوبات فرضها المجتمع لتكريس مبدأ الاستقامة، تفاوتت شدتها بحسب حجم الجريمة المرتكبة وحجم الضرر الواقع على المجتمع منها.
وفُرضت عقوبات قاسية على سرقة المقابر كجزاء رادع لنهب ما كانت تحويه من كنوز. ويذكر الملك سيتي الأول أنه أمر بعقوبة قاسية بحق من يسرق ممتلكات مؤسسة دينية بقطع الأنف والأذنين، وأن يعمل في فلاحة الأرض التابعة للدولة، وهو ما أطلق عليه المصري القديم "الخدمة العقابية".
وسواء كانت طبيعة السرقة لمقابر أو ممتلكات دينية أو شخصية، أكد الأدب المصري منذ آلاف السنين على مبدأ الالتزام بالفضيلة في مناحي الحياة، من خلال تعاليم توارثتها أجيال في مسعى للحفاظ على سلوك الفرد في المجتمع كأفضل سبيل لمكافحة الجرائم، لاسيما السرقات، عندما أعلن المصري أمام ميزان أعماله في العالم الآخر قائلا :"لم أسرق، لم تكن ثروتي عظيمة إلا من ملكي الخاص، ولم أسرق هبات المعبد".