إطلاق النار على المشهد

أثناء مرورنا في الشوارع المملؤة بالركام والحطام الناجم عن تدمير وانهيار المباني، لا نشمُّ سوى رائحة كريهة تملأ الأجواء ، بينما تسيطر أصوات إطلاق النار على المشهد. هكذا استهلت صحيفة "التايمز" البريطانية تقريرًا لها عن الأوضاع في مدينة سرت الليبية.

وأضافت الصحيفة البريطانية أن خمسة أشهر من القتال في المدينة الساحلية المطلة على البحر المتوسط ربما كانت كافية لتحويل الميناء إلى مدينة رعب حقيقية، حيث تتواجد الفجوات في الشوارع والتي تمتلي بجثث الموتى المهترئة وحطام المركبات التي دمرها القتال وقذائف المدفعية في هذه المدينة الساحلية التي كانت معقلا لمقاتلي تنظيم "داعش"، ولكنها أصبحت فيما بعد مقبرتهم، كما تقول الصحيفة، التي نقلت عن المتحدث باسم الجيش الليبي محمد الجاسري قوله: "لا يمكنهم أن يفاجئونا مرة أخرى لأنهم قد انتهوا."

إلا أن أصوات المدفعية والأسلحة والانفجارات التي تتكرر بين الحين والأخر، ربما تأتي لتثبت أنه مازال الوقت مبكرًا جدا على نهاية المعركة، خاصة وأن عدد القتلى بين القوات الموالية للحكومة الليبية وصل إلى حوالي ستة أشخاص، بينما وصل أعداد المصابين إلى حوالي 25 شخصًا.
علم "داعش" رفع في ليبيا للمرة الأولى مع بدايات العام الماضي، حيث تمكنت الميليشيات المتطرفة من السيطرة على أجزاء منها في أعقاب الفوضى الناجمة عن التدخل الدولي في ليبيا لإسقاط العقيد معمر القذافي على أثر الانتفاضة التي قامت للإطاحة بنظامه في عام 2011، لتكون بمثابة أول مقر للتنظيم المتطرف في خارج منطقة الشرق الأوسط.

إلا أن كل ما تبقى من معاقل التنظيم في ليبيا هو مدينة سرت الليبية، حيث قام مقاتلوه بنصب الخنادق كوسيلة أخيرة لمواجهة ألاف الجنود الموالين للجيش الليبي. وأوضحت الصحيفة أن أعدادًا كبيرة من مقاتلي الجيش الليبي من الشباب الصغير سنا، والذي يحظى بمعنويات مرتفعة للغاية، ولكن لم يحصل على قسط كافٍ من التدريبات.

في أحد الأيام، ثمانية أشخاص قتلوا برصاصات في الرأس، في حين أن ثمانية أخرين ماتوا من جراء إصابتهم بطلقات نارية في الصدر، هكذا يقول حسونة شاجولف، والذي يبلغ من العمر 20 عاما، والذي كان جالسا على أريكة مهترئة تعد أحد بقايا المبنى الذي تم قصفه من قبل القوات الليبية. في حين أن حائطا مجاورا كان ملطخا بالدماء، بينما تتواجد جثة أخرى ملفوفة في بطانية في إحدى الغرف المجاورة.

وخارج بقايا أحد المباني، والذي كان مقرا للبنك المركزي، نزل أحد المقاتلين من شاحنة حاملًا سلاحا آليًا يطلق تحذيراته للمارة بعدم البقاء لوقت طويل، وهو الأمر الذي يأتي بعد أسابيع قليلة من مقتل المصور الهولندي جيرون أورليمانس أثناء زيارته للمدينة، على يد أحد القناصة. وبعد عدة أميال، التقينا بشخص أحر يدعى أحمد جاباك، وهو صاحب أحد الكراجات في المدينة، كان يستعد لممارسة مهامه التي قد تنهي حياته، من جراء الوظيفة الجديدة التي يقوم بها على الرغم من كونه غير متمرس فيها.

كان رجل قوي البنية لدية لحية سوداء كثيفة، وظيفته تبدو مرعبة، فهو يقوم بتعطيل المواد المفخخة الموضوعة من قبل الميليشيات المتطرفة في أنحاء مختلفة من المدينة الليبية، بعضها قنابل موضوعه في الشوارع في صورة حجارة معرضة للانفجار في أي لحظة إذا ما قام أحد المارة بالمرور عليها عن طريق الخطأ. وربما ما يلفت الانتباه أنه يقوم بتلك الوظيفة دون أن تكون لديه خوذة أو ملابس واقية.

ويقول جاباك "كن حرسًا أينما تسير حيث أن ميليشيات التنظيم المتطرف دفت قنابلها ومتفجراتها تحت الرمال، حتى إذا ما داس عليها المارة تنفجر." حتى الأدوات استخدمها التنظيم المتطرف كمتفجرات، فعندما تفتح أحد الأبواب ربما يحصل انفجار، كما أنه وجدت عشرات الأحزمة المتفجرة، والمعبأة بمواد شديدة الانفجار.
وأضاف جاباك أن تلك الأجهزة ربما تؤدي إلى إصابات مروعة كل يوم، حيث أصيب شاب يدعى عبادي عوينة، ويبلغ من العمر 32 عاما بشظايا في الرأس من جراء لمس احدى الأدوات أثناء وجوده في منزل كان يقطنه مقاتلو التنظيم المتطرف.

وفي مكان قريب قتل أحمد جنات، ويبلغ من العمر 20 عاما، والذي كان يقاتل بجوار عمه إبراهيم، حيث أنه دخل إلى احدى البنايات، مع مجموعة أخرى من القوات الليبية، بحثا عن المسلحين المتطرفين ليجد وابلا من الرصاص ينطلق باتجاههم، مما أدى إلى إصابته برصاصة في الصدر أودت بحياته.

أما خالد الجدار، وهو يعمل طبيبا، فقد لا يبدو مصدومًا الى درجة كبيرة، حيث أنه متطوع لعلاج المصابين من جراء المعركة الدامية التي تشهدها المدينة. ويقول الجدار إنه ينبغي نقل المصابين إلى مستشفى مصراته، والتي تبتعد حوالي 170 ميلا فقط من غرب المدينة، موضحا أنه من أجواء سرت لا تسمح إطلاقا بعلاج المصابين، وهو الأمر الذي أدى إلى فقدان الكثير منهم. أما الحالات الأكثر خطورة فيتم نقلها عن طريق طائرة هيلكوبتر قديمة، حيث أشار لها الطبيب المتطوع قائلا "أنظر كم هي قديمة، وليست مجهزة بالمعدات اللازمة لإجراء الإسعافات الأولية للمصابين." وهناك ضحية أخرى، يدعى أسامة جريش، ويبلغ من العمر 26 عاما، يئن من شدة الألم بينما يقوم طبيبه بتضميد يده اليمنى المصابة برصاصة.

مدينة سرت الليبية، والتي تعد مسقط رأس العقيد القذافي، أصبحت بمثابة مدينة أشباح، حيث فر سكانها، والذين تقدر أعدادهم بحوالي 120 ألف نسمة. محمود سمير، والذي يبلغ من العمر 52 عاما، ويعمل في تجارة السيارات، بدت عليه علامات الصدمة من جراء مشاهدته لمنزله الذي كان يقطنه لسنوات طويلة، حيث كان يراه للمرة الأولى في الأسبوع الماضي، عندما ذهب الى المدينة استجابة للمبادرات المطالبة بالعودة.

بقايا الشظايا والقذائف تملأ الشارع الذي كان يسكنه، بينما الرائحة الكريهة تسيطر على الأجواء، والتي تأتي من جراء الأجساد أو بقايا الأجساد المتناثرة في المنازل المحيطة، بينما فناء المنزل كان مليء ببقايا عظام الماعز، حيث كان مقاتلي "داعش" يذبحون الأغنام في داخله إبان سيطرتهم على المدينة.

الحوائط مدمرة، وأكوام المراتب القذرة والملابس المتشابكة متناثرة في غرفة النوم، بينما تبقى ممتلكات الأسرة بداية من الأثاث وحتى ألبومات الصور ليس لها وجود إطلاقا. ويقول سمير "زوجتي كانت تتمنى أن ترى صورا للمنزل، ولكني لا أستطيع أن أريها شيئا مما حدث. ربما لا تحتمل الصدمة من جراء ما سوف ترى."

ومع تشديد الخناق على الميليشيات المتطرفة، ظهر العديد من التفاصيل القاتمة حول الحياة في ظل حكمهم، حيث أنهم قاموا بقتل العشرات من المواطنين شنقا أو ذبحا في أماكن عامة على الملأ. بينما ربطوا أخرين في هياكل معدنية، لتكون أذرعهم ممدودة، وكأنهم مصلوبون، ليتم شنقهم بعد ذلك أو إطلاق النار عليهم.

العديد من هؤلاء القتلى لم يتم دفنهم، ولكنهم تركوا على حالتهم لأيام طويلة، تعدت الثلاثة أيام، ليصاب المارة والسائقون وكذلك الأطفال بحالة من الرعب. الأطفال لم يبقوا بعيدا عن بطش التنظيم المتطرف، هكذا يقول سمير، موضحا أن إبن أخيه، والذي يبلغ من العمر 12 عاما، حكى لهم أن الميليشيات المتطرفة كانت تقتحم المدرسة التي يدرس فيها مرتين أسبوعيا على الأقل، حيث كانوا يوبخون التلاميذ ويطالبونهم بتبني الدين الحق والشريعة.

وأضاف أن أحد التلاميذ صاح في مقاتلي التنظيم أثناء حديثهم مع الطلاب قائلا "ماذا فعلتم مع والدي؟" فكان ردهم عليه بمعاقبته، حيث أمروه بالوقوف على قدم واحدة لمدة ساعتين، وهددوه أنه في حالة نزوله قدمه الأخرى على الأرض سوف يطلقون عليها النار.