إيران واقعة في تناقض سياسي مكشوف

مثلما توقَّع معارضو الاتفاق النووي الإيراني من التيار المحافظ، يبدو أن طهران تتحرك بسرعة كبيرة نحو توسيع نفوذها الإقليمي، في الوقت الذي تعمل فيه أيضا على مجابهة المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. ولكن بالرغم من ذلك، تبقى توقعات أنصار الاتفاق، الذي أثار الكثير من الجدل، في محلها هي الأخرى، حيث تتجه الدولة الفارسية نحو الانفتاح على العالم الخارجي، وإن كان ذلك يحدث ببطء، حيث أنها عقدت العديد من الصفقات مع شركات غربية، وفتحت الباب أمام تسريع الانترنت، والترحيب بحشود السائحين الأوروبيين، بالإضافة إلى تخفيف العديد من القيود المفروضة على المواطنين.

ربما أن ما يبدو وكأنه تناقض محيرا للمتابعين، هو في الواقع سياسة مدروسة بعناية، تقوم على السير في مسارين، وهو النهج الذي يتبعه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية أية الله خامنئي، ومجموعة من القادة المحيطين به. فالجنرالات الإيرانيون يقودون الحرب في سورية، بينما مستشارو طهران العسكريون يقومون بتدريب الميليشيات الشيعية المتواجدة في سورية والعراق، في حين أن الدعم الفارسي، سواء كان في صورة سلاح أو أي شكل أخر، يذهب مباشرة الى الميليشيات الحوثية في اليمن.

أية الله خامنئي يبدو حريصا على اطلاق انتقاداته اللاذعة للولايات المتحدة، متعهدا بعدم تخفيف حدة العداء الإيراني تجاه "الشيطان الأكبر"، في الوقت الذي يفتح فيه الباب بهدوء أمام رأس المال والخبرات الغربية لدخول البلاد. ويقول سعيد ليلاز، وهو خبير اقتصادي مقرب من حكومة الرئيس روحاني، إنها بالفعل جزء من سياسة بلاده، والتي تهدف إلى إظهار قوة إيران وفي نفس الوقت تسعى إلى التقارب مع الغرب. المساران اللذان تنتهجهما السياسة الإيرانية يهدفان إلى تعزيز نفوذ طهران.

هل ترى أن ذلك يحمل تناقضا؟ هكذا تساءل ليلاز، مضيفا "دعني أخبرك أنها نفس السياسة التي سبق وأن تبنتها الولايات المتحدة لعقود طويلة من الزمان." ليس هناك من شك أن إيران تمارس المزيد من القوة في المرحلة الراهنة في مختلف بؤر الصراع داخل المنطقة، فعلى ساحة القتال في سورية، يتواجد المستشارين الإيرانيين، والذين يعملون جنبا إلى جنب مع المتطوعين الذين تجندهم طهران سواء من الأفغان أو الميليشيات الشيعية الموالية لها، حيث يقاتلون ويقتلون بجوار القوات الحكومية السورية من أجل طرد المتمردين من مدينة حلب السورية.

في العراق، وبالقرب من مدينة الموصل، تتواجد ميليشيات "الحشد الشعبي"، وهي الميليشيات التي تحمل اسما من بين عشرات الأسماء التي تحملها الميليشيات الشيعية الموالية لطهران، وتقوم بدور بارز في المعارك الدائرة هناك بجانب "قوات القدس" والتابعة للحرس الثوري الإيراني.

 ربما يكون الوقت غير مناسب، في ظل الاضطرابات المتزايدة والتي تضرب مختلف أرجاء المنطقة، لتخفيف القيود المفروضة من قبل طهران على التعاملات التجارية مع الغرب، أو لفتح الباب أمام مزيد من الحريات الشخصية للمواطنين الإيرانيين في الداخل.

إلا أن هذا هو ما يحدث بالضبط، فهناك تغيير ملحوظ في السياسات الإيرانية، تبدو تدريجية وبطيئة، كما أنها يمكن أن تعود إلى الوراء في أي لحظة، ولكنها في الواقع موجودة ولا لبس فيها. والتغيير الأكثر وضوحا في المشهد الإيراني يبدو متعلقا بالسياسة، في ظل الهزائم المتواترة التي نالها التيار المتشدد في طهران، والمكون من النخبة المحافظة من رجال الدين، والقادة العسكريين، وذلك بعد أكثر من خمسة عشرة عاما من قبوعهم في سدة السلطة في البلاد.

يبقى محمود أحمدي نجاد أحد أهم رموز التيار المتشدد، حيث أكد خلال فترة رئاسته أن بلاده لن تقبل بأي حلول وسط حول برنامجها النووي، إلا أنه في عام 2012، أي قبل رحيله عن السلطة بعام واحد، أعطى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الإذن لممثليه للاتصال بالولايات المتحدة بحثا عن حل وسط.

منذ ذلك الحين، بدأت خسائر التيار المتشدد تتواتر واحدة تلو الأخرى، حيث خسروا معركتهم بعد ذلك أمام مجموعة التكنوقراط المعتدلين، والذين كانوا بمثابة الفئة الوحيدة القادرة على التواصل مع الغرب، ثم خسروا معركتهم الانتخابية خلال انتخابات الرئاسة في عام 2013، والتي فاز فيها المرشح المعتدل حسن روحاني، كما أنهم بصدد خسارة جديدة في الانتخابات الرئاسية القادمة، بعد أن أمر المرشد الأعلى الرئيس السابق أحمدي نجاد بعدم الترشح من جديد في الانتخابات الرئاسية المقبلة، على الرغم من كونه المتشدد الوحيد الذي مازال يحظى بشعبية كبيرة.

خلال سنتين من المحادثات النووية بين إيران والقوى الدولية الكبرى، تحدث المتشددون عن رفضهم لأي حلول وسط حول البرنامج النووي في طهران، ولكنهم خسروا في النهاية، وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة، كانت الخسارة أيضا حليفهم. ورغم الهزائم المتواترة، ظلوا يتحدثون رافضين الاستثمار الأجنبي في البلاد، ومستنكرين منح مزيد من الحريات، منتقدين للحفلات الموسيقية وزيارة السائحين لبلادهم، وفي كل قضية من تلك القضايا التي دأبوا على إثارتها بين الحين والأخر كانوا يخسرون.

الأمر لا يبدو مصادفة، هكذا قال قطاع كبير من المحللين المتابعين للشأن الإيراني، حيث أن أية الله خامنئي يسعى في المرحلة الراهنة لتخفيف القيود المفروضة في بلاده، لعل ذلك يكون سببا في الخروج من العزلة التي تعانيها منذ سنوات طويلة، خاصة وأن الأوضاع الاقتصادية التي عاشتها البلاد كانت سببا في حالة الإحباط التي ضربت قطاعا كبيرا من الشباب الذي كانوا يتوقون للعيش في دولة طبيعية.

خامنئي، والذي يبلغ من العمر 77 عاما، يبدو مصرا إلى حد كبير إلى إعادة ترتيب الأوراق من جديد وإجراء التغييرات الضرورية التي من شأنها إعادة ترتيب علاقات بلاده مع العالم الخارجي. ويقول المحلل الإيراني حميد رضا تراجي، والمقرب من المتشددين في طهران، أن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية يرى أن هناك ضرورة ملحة لتستلهم بلاده التجربة الصينية، بحيث يمكنك الانخراط في علاقات اقتصادية مع الغرب دون أن يكون لهم نفوذ عليك. لذلك اتجهت طهران نحو تخفيف القيود على تأشيرات الدخول، وسياسات الاستثمار الأجنبي، بينما يعمل دبلوماسيو الدولة الفارسية على الترويج لبلادهم باعتبارها سوقا رئيسية ولكنها غير مستغلة بالصورة المثلى.

من جانبه يرى ليلاز أن بلاده تريد من الغرب استثماراته، وهو الأمر الذي يمكن تحقيقه بعدما تم تخفيف العقوبات الدولية المفروضة عليها، ولكنهم في المقابل لا يريدون سياساتهم على الإطلاق. ويقول رينيه هارون، العضو المنتدب للشركة الإيرانية الألمانية للصناعة والتجارة، أنها "حقبة جديدة تعيشها الجمهورية الإسلامية حيث أن الحكومة اتخذت خطوات واسعة من أجل تحسين الأعمال."

في الشهور الأخيرة، لاحظ أيضا الإيرانيون العاديون تغييرات أخرى كانت محل ترحيب كبير من جانبهم، حيث أصبح الانترنت أسرع بصورة ملحوظة، حيث أصبح يسمح لهم بمشاهدة مقاطع الفيديو، وهو الأمر الذي لم يكن ممكنا على الإطلاق من قبل. التلفزيون الحكومي أنشأ قنوات رقمية جديدة، بعضها يقدم أفلامًا كوميدية، وهو أمر لم يكن موجودا من قبل.

البرلمان الإيراني، والذي يظهر للمرة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمان خاليا من هيمنة التيار المتشدد، يطالب بفرض قيود على عقوبة الإعدام وإضفاء مزيد من الحرية للصحافة والإعلام وإعادة السياسيات الإيرانيات اللاتي تم حظرهن بسبب ظهورهن في بعض الصور دون ارتداء الحجاب. ولكن في الوقت نفسه، تأتي تصريحات خامنئي خارجة عن السياق الإصلاحي الذي تشهده البلاد، حيث تطغى عليها النبرة العدائية تجاه الولايات المتحدة والغرب، ربما لطمأنة أنصاره من المتشددين أن طهران سوف تواصل طريقها على النهج الثيوقراطي المتشدد محتفظة بأسلوبها المناوئ لأمريكا والغرب.

ولعل المثال البارز في هذا الإطار، التصريح الذي أدلى به الأسبوع الماضي، والذي أكد خلاله أن المشكلات بين إيران والولايات المتحدة لا يمكن أن تحل. فخامنئي يبدو حريصا على تكرار تحذيراته حول تنظيم "داعش" وما يشكله من تهديد صريح للشيعة في طهران، إلا أن المغامرات العسكرية الإيرانية في سورية والعراق لا تبدو محل اهتمام كبير في الداخل الإيراني من قبل المواطنين.

ويقول الصحفي الإيراني محمد حيدري "ينبغي أن تكون إيران قوية ومؤثرة. أنظروا فقط إلى الخريطة لتدركوا أين نتواجد نحن الان وكيف أصبحنا حتى تفهموا الرؤية التي تتبناها السياسة الإيرانية."

أية الله خامنئي يبدو أكثر الناس الذين ينتقدون الاتفاق النووي علانية أمام الجميع، ولكن المتشددين الأكثر نفوذا يدركون جيدا أنه كان بمثابة مهندس الاتفاق، حيث أن هناك العديد من الأمور في طهران يمكن أن النظر إليها على أنها للاستهلاك المحلي، ربما لإلهاء المواطنين أو استرضاء التيار المتشدد.