بريشتينـا - راغب منصور
وجهّت الشرطة في كوسوفو بعد عامين من التحقيقات المكثّفة، إتهامات بالتطرّف والارهاب إلى 67 شخصاً وقامت بإلقاء القبض على 14 إماماً، مع إغلاق 19 مؤسسة إسلامية بتهمة العمل ضد الدستور والتحريض على الكراهية والتجنيد للإرهاب، وهي الأحكام الأخيرة التي تضمنت عقوبة السسجن لمدة عشر سنوات.
ويمثل ذلك إنقلاباً مذهلاً للبلد التي يبلغ عدد سكانها 1,8 مليون شخص، وأكثر المجتمعات الإسلامية المؤيدة للولايات المتحدة في العالم حتى وقت قريب، في أعقاب التدخل الأميركي والترحيب به كمحرر بعد شهور من قصف حلف الناتو عام 1999 وإعلان إستقلال كوسوفو.
ويتوجه كل يوم جمعة المئات من الشباب الملتحي في كوسوفو إلى الصلاة خارج المسجد الذي يقع في مخزن سابق للأثاث، وذلك للمرة الاولى منذ التدخل الأميركي لإنتشال كوسوفو من الظلم الصربي قبل سبعة عشر عاماً. ليتحول ذلك المجتمع المسلم الذي كان يتسم بالتسامح ذات يوم إلى التطرف الإسلامي وخط إمداد للمتطرّفين.
ووجدت كوسوفو في الوقت الحالي نفسها ،مثل بقية دول أوروبـا، تجابه خطر التطرّف، فعلى مدار العامين الماضيين، حددّت الشرطة 314 مواطناً في كوسوفو من بينهم إثنان من المفجرّين الإنتحاريين و 44 سيدة و 28 فتى" والذين سافروا إلى الخارج للإنضمام إلى تنظيم "داعش". وذكر محقّقون في كوسوفو بأن هؤلاء المتطرفين تم تجنيدهم من قبل رجال الدين والجمعيات السريّة بإستخدام شبكة معقدة غامضة للتبرعات من الجمعيات الخيرية والأفراد.
وعقب إنتهاء الحرب في كوسوفوعام 1999، رحّب إدريس بيلالي إمام المسجد المركزي في بودوييفو Podujevo بأي مساعدة يحصل عليها. وتعد بودوييفو موطناً لحوالي 90 ألف شخص في شمال شرق كوسوفو، وكانت بلدة مزدهرة بشكل معقول ويوجد فيها المدارس الثانوية والشركات الصغيرة في منطقة تحيط بها الأراضي الزراعية والغابات ومعروف عنها التقليد الإسلامي القوي.
وبعد عقود من الحكم الشيوعي عندما كانت كوسوفو جزءا من يوغوسلافيا، حيث إختلاط الرجال والنساء بحرية، إضافةً إلي وجود المدارس المختلطة أيضاً، ونادراً ما كانت الفتيات تقوم بإرتداء الحجاب، فقد قامت القوات شبه العسكرية الصربية بهدم 218 مسجداً كجزء من حربها ضد الألبانيين في كوسوفو، الذين يشكل المسلمون 95 بالمائة منهم. وهو ما دفع السيد بيلالي إلى طلب المساعدة في إعادة البناء.
وأضاف السيد بيلالي بأن الهدف الرئيسي من نشاط المتطرفين هو خلق صراع بين الجميع، ففي البداية تتم إثارة الفرقة، ثم الكراهية، وبعد ذلك يمكن أن يصبح الوضع كما حدث في البلدان العربية، حيث تبدأ الحرب بسبب هذه الأفكار المتضاربة. ويقول سكان المدينة بأنه كان هناك سعي من الوافدين حديثاً لتجاوز الجالية الإسلامية في كوسوفو، والتي ظلت لأجيال محافظة على الشكل المتسامح للإسلام. حيث ظهر جيل جديد من الدعاة المتشددين في المساجد التي بنيت حديثاً ، وتم هدم بعض المباني التي يعود تاريخها إلي عدة قرون مثل المساجد والمكتبة التاريخية في غياكوفا وكذلك الأضرحة والمقابر والأديرة.
وغالباً ما تنفق بعض المؤسسات الخيرية أموالاً للرواتب والنفقات العامة، والدورات الدراسية في الدين، فضلاً عن دروس اللغة الإنجليزية والكمبيوتر، بحسب ما يوضح الأئمة المعتدلون والمحققون. إلا أن المساعدات الخيرية في كثيرٍ من الأحيان قد تكون مشروطة، حيث قال نشطاء في مجال حقوق الإنسان بأن العائلات تحصل علي رواتب شهرية بشرط حضور الخطب في المساجد وإرتداء النساء والفتيات للحجاب.
وبعد سنواتٍ قليلة من إنتهاء الحرب، بدأ الجيل الأكبر سناً من رجال الدين التقليديين في مواجهة العدوان من الشباب المتطرّف. ومن المفارقات، فإن بعض التوترات الخطيرة إندلعت في جيلان Gjilan، وهي البلدة الواقعة شرقي كوسوفو لعدد سكان يبلغ حوالي90 ألفا" حيث يتمركز أيضا نحو 7,الافجندي أميركي كجزء من قوة حفظ السلام الذي تديره الامم المتحدة في كوسوفو في معسكر بوندستيل Bondsteel.
وذكر أحد الأئمة المعتدلين من الشيعة في جيلان ويدعي أنور ريجبي بأنه واجه تهديداً ذات يوم في عام 2004 من من قبل أحد الشباب المتطرفين الأكثر عدوانية، وذلك لظهوره داخل المسجد وهو يحمل العلم الألباني حيث النسر برأسين والذي كان رمزاً للنضال من أجل تحرير كوسوفو . ما تسبب في غضب المتطرف المدعو زيد الكاظمي بإعتبار ذلك تمجيد للوثنية، ليقوم بتمزيق العلم ، إلا أن السيد رجب حمله مرةً أخرى.
وفي غضون أيام، تعرض السيد رجب للإختطاف والضرب المبرح من قبل رجال ملثمين في الغابة فوق جيلان Gjilan. وألقي بالإتهام في وقتٍ لاحق على المتطرف بأنه كان وراء الهجوم، إلا أن تحقيقات الشرطة لم تتوصل إلى هوية هؤلاء الملثمين.
وبمرور عشر سنوات، وبالتحديد في عام 2014، فجر شابان من كوسوفو نفسيهما خلال هجوم إرهابي في العراق وتركيا، وبدأ المحققون في إجراء تحقيق موسع حول مصادر التطرف. وألقي القبض على السيد كاظمي بينما كان يختبئ في نفس الغابة. لتقضي المحكمة بإيداعه في السجن لمدة عشرة أعوام بعد أن وجهت إليه إتهامات بالتحريض على الكراهية وتجنيد عناصر لمنظمة إرهابية.
وكان كاظمي تم تعيينه باديء الأمر لتولي مسجد داخل إحدى القرى، ثم مسجد القدس في أطراف مدينة جيلان Gjilan. وقليلون من يمكنهم مواجهته، ولا حتى مصطفى باجرامي أستاذه السابق الحاصل علي درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية والذي إنتخب رئيساً للجالية الإسلامية في جيلان عام 2012. ولكنه يتذكر بداية تمرد التلاميذ ضده كلما تحدث ضد التطرف، وسرعان ما أدرك بأن الطلاب كان يجري تدريسهم المعتقدات التي تختلف عن المنهج المعتدل التقليدي من عدة أئمة، ما دفعه إلى منع إستخدام المساجد بعد إنقضاء الصلاة.
ومع مرور الوقت، توسع بعض الأئمة في عملهم، وبحلول عام 2004، كان السيد موسليو وهو أحد الطلاب الحاصلين علي درجة الماجستير من بودوييفو Podujevo ، قد تخرج، وكان إمام مسجد في العاصمة بريشتينا Pristina. وفي بودوييفو أنشأ مؤسسة خيرية محلية تسمى Devotshmeria أو الولاء والتي تعطي دروساً دينية، وتوفر برامج إجتماعية للنساء والأيتام والفقراء. وقد تم تمويلها من قبل منظمة الوقف الإسلامي، وهي كانت واحدة من بين 19 منظمة تعرضت للإغلاق في نهاية المطاف من قبل المحققين.
وقال السيد بيلالي بأن إغلاق هذه المنظمات كان البداية، حيث قاد حملة قوية ضد انتشار المساجد غير المرخصة والتعليم المتطرّف. وفي عام 2008، إنتخب رئيساً للجالية الإسلامية في بودوييفو وحصلت النساء علي الدروس الدينية في محاولة لتقويض مؤسسة Devotshmeria.
وأثناء سعيه نحو كبح جماح المتطرفين، تلقى السيد بيلالي تهديداتٍ بالقتل، بما فيها إنذار ترك في صندوق جمع الصدقات داخل المسجد، وتعهد متصل مجهول عبر الهاتف بإخفائه هو وأسرته. وقال السيد بيلالي بأن أي شخص يرونه معارضا" لهم يعتبرونه عدوا" لهم، ومع مناشدته لقيادة الجالية الإسلامية في كوسوفو، إلا أنه لم يحصل سوى على القليل من الدعم.
وعندما قام السيد بيلالي بتشكيل إتحاد من الأئمة المعتدلين، قامت الجالية الإسلامية بعزله من منصبه، وجاءت بخليفته بكيم جاشاري الذي قضى عشرة أعوام في البلدان العربية، وتخصص في الطائفية بالإسلام. وشدد السيد جاشاري على أهمية وقف الطائفية العربية ومنعها من الدخول إلى كوسوفو.
وكان السيد جاشاري نجح في منع الإمام سوغوجيفا من فتح مسجد جديد، كما أوقف تمويلا" بمبلغ 20 الف يورو أي حوالي 22الفا و400 دولار مخصصة لبناء ذلك المسجد. بينما بدأ أيضاً في إنشاء موقع على شبكة الإنترنت لمواجهة تدريس التطرّف، ولكنه لا يزال قلقاً للغاية من المتطرفين بحيث لا يسمح أبداً لنجله البالغ من العمر 19 عاماً بالذهاب إلى المسجد لوحده وأداء فريضة الصلاة.
وبلغ نفوذ رجال الدين المتشددين ذروته مع إندلاع الحرب في سورية، حيث كشفوا عما أسموه "فضائل الجهاد" مستخدمين الخطب المستعملة والأحاديث الإذاعية والتلفزيونية لحثّ الشباب على الذهاب إلى هناك. كما نظم السيد كاظمي الذي حكم عليه بالسجن عشر سنوات معسكراً صيفياً لأتباعه من الشباب، وشدد على ضرورة إتباع النبي محمد والذهاب إلى الجهاد لمن لديه الفرصة للمشاركة وإلا كان مصيره الموت كافراً. مشيراً في تسجيل آخر إلى أن دماء الكفار تعد أفضل مشروبٍ بالنسبة للمسلمين.
ومن بين العناصر التي نجح في تجنيدها وفق ما يقول المحققون ثلاثة موظفين مدنيين سابقين من شركات المقاولات الأميركية في معسكر بوندستيل Bondsteel، حيث تتمركز القوات الأميركية. وكان من بينهم لافدريم مواكسيري ، وهو زعيم تنظيم داعش الذي تم تصويره خلال تنفيذ الإعدام بحق رجل في سورية بواسطة قذيفة صاروخية.
وبعد وقوع التفجيرات الإنتحارية، فتحت السلطات تحقيقاً موسعاً، ووجدت بأن جمعية الوقف الإسلامي Al Waqf al Islami هي من قدمت الدعم للهيئات والمنظمات التي أنشأها الدعاة مثل السيد كاظمي في كافة البلدان الإقليمية تقريباً. وتأسست الوقف الإسلامي في البلقان عام 1989.
ووجد المحققون من وحدة الإستخبارات المالية في كوسوفو بأن منظمة الوقف الإسلامي، التي لديها مكتب في وسط بريشتينا Pristina، وطاقم موظفين مكون من 12 فرداً حصلت على تمويل بمبلغ 10 ملايين يورو خلال الفترة من عام 2000 وحتي 2012. كما توصلوا مؤخرا إلى القليل من الأوراق التي توضح أكثر أوجه الإنفاق والتي تعددت ما بين بناء المساجد ورعاية الأيتام وغيرها.
وأغلقت الشرطة في كوسوفو خلال صيف عام 2014 الوقف الإسلامي إلى جانب 12 جمعية خيرية إسلامية أخرى، مع إلقاء القبض علي 40 شخصاً. ومنذ ذلك الحين قامت المكاتب الرئيسية للمؤسسة الخيرية بتغيير الإسم إلي الوقف Al Waqf ، لتنأى على ما يبدو بنفسها من المكتب في البلقان. وذكر مدير جمعية الوقف Al Waqf في هولندا، بأنه ليس لديه معرفة مباشرة عن عمليات جماعته في كوسوفو أو في البلقان، مضيفاً بأن الجمعية الخيرية توقفت عن العمل خارج هولندا منذ توليه المنصب في عام 2013
وفي وقت مبكر من عام 2004، حاول رئيس الوزراء وقتها بيرم رجب إصدار قانون لحظر الطوائف المتطرفة، إلا أن المسؤولين الأوروبيين ذكروا له بأنه سوف ينتهك بذلك الحرية الدينية. فقد أرادوا عدم إثارة غضب بعض الدول الإسلامية، غير مدركين بحجم المخاطر، ومن ثم لم يتم القيام بشئ.
وحتى مع إغلاق بعض المنظمات، إلا أن هناك منظماتٍ أخرى لا تزال تعمل. وقد إنتقل طاقم العاملين في منظمة الحرمين التي أغلقت عام 2004 لصلتها بالإرهاب إلي الوقف الإسلامي Al Waqf al Islami، وتشير أرقام البنك المركزي في كوسوفو إلى أن متوسط حجم المنح المقدمة يبلغ 3 مليون يورو سنويا" .
وأضاف المحققون بأن الأموال غالباً ما يتم تحويلها من خلال بلد ثانٍ لإخفاء مصدرها ووجهتها، وقد تم تجميد أحد التحويلات لما يقرب من 500 الف يورو من أحد الأفراد في عام 2014 عندما كانت موجهة إلى أحد المراهقين في كوسوفو وفقاً لتأكيدات المحققين وتقرير وزارة الخارجية.
وقال أحمد سادريو المتحدث باسم الجالية الإسلامية في كوسوفو بأنهم يطبقون الإسلام غير المتشدد والذي يحث على التسامح، إلا أن النداءات تتصاعد لإجراء إصلاحات للمنظمة بسبب الفساد الناتج عن القوى الخارجية والمال. فيما قال وزير الداخلية في كوسوفو اسكندر حسيني، بأنه قام بتوبيخ بعض كبار المسؤولين الدينيين مؤخراً، مشدداً على ضرورة الحفاظ على التسامح بين الأديان وسط الألبانيين.
وتمزقت بعض العائلات في كوسوفو بعد إستقطاب ابنائها للتطرّف، وقال أحد خريجي العلوم السياسية في كوسوفو ويدعي ألبرت بريشا بأنه سافر في عام 2013 من أجل مساعدة الشعب السوري في ثورته ضد حكومة الرئيس بشار الأسد. إلا أنه تخلى عن محاولته بعد إسبوعين فقط - ويقول بأنه لم ينضم نهائياً إلي تنظيم داعش - ولكن صدر عليه حكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات ونصف وفي إنتظار الإستئناف.
أما عصمت ساخي Ismet Sakiqi ، وهو مسؤول في مكتب رئيس الوزراء ومحارب قديم شارك في النضال من أجل التحرير، فقد وجد نجله البالغ من العمر 22 عاما ويدعي فيزار، طالب في كلية الحقوق، قد إعتقل وهو في طريقه عبر تركيا الى سورية برفقة خطيبته. بينما يقوم في الوقت الحالي الآن بزيارة إبنه داخل السجن ذاته الذي يقبع فيه في كوسوفو حيث تم احتجازه تحت الحكم الصربي.
أما شمسي مليكي، فيعقد الآمال على أن يكون أحد أبنائه ويدعي أليجيم Alejhim البالغ من العمر 27 عاماً قد ذهب للدراسة في مصر وليس من أجل القتال في سورية، إلا أن شرطة مكافحة الإرهاب في كوسوفو أصدرت مؤخراً مذكرة توقيف بحق أليجيم