بغداد – نجلاء الطائي
وُلد الموسوعي عبد الغني الملّاح في الموصل عام 1923 وتوفي عام 2002 وأنجز وأبدع بين العامين وأعطى سلسلة من الإبداعات الأدبية والفكرية، دخل مجال الأدب شاعراً إلا أنه أدرك زخم المشهد الشعري، وبعد أن أصدر ديوانين، انتقل إلى مجال الدراسات والكتابات الأدبية والفكرية التي أثارت الجدل في المشهد العراقي والعربي، الكاتب الموسوعي والشاعر والأديب عبد الغني الملاح استُذكر في بيت المدى في شارع المتنبي وسط حضور ثقافي وإعلامي وأدبي، وهو كاتب مشاكس، وهكذا يصفه الباحث موفق التميمي، مُشيراً إلى أنه "واحد من سلسلة رموز الفخر العراقي وأُقاربه حسين علي محفوظ، فقد كتب بحماسة عن المتنبي والمعري، وبذات الحماسة كتب عن الفلك والفيزياء." للملاح ميزة الطرافة والسخرية.
وهاتان الميزتان جعلتا، كما أكد التميمي ،" كتبه تنفد بعد طبعها، فهو لديه 17 مؤلفاً مطبوعاً طبعها على نفقته الخاصة ولا يوجد كتاب تبنته جهة رسمية، كما أن كتبه لم تنفد لأسباب تجارية بل لديه قدرة أسلوبية اختص بها هي التي جعلت المتلقي يذهب إلى كتبه. و"الملاح كاتب مشاكس يصدم ويكتب بزوايا غير مألوفة وظل كتاب "المتنبي يستردّ أباه " مثيراً للجدل في حياة الملاح وبعد مماته كما يذكر التميمي" سواء أكنّا نتفق أو نختلف مع هذا الكتاب إلا أنه كان حجراً في بركة ساكنة." استذكاره بهذا الوقت مهم لأنه من الموصل وهي مدينة عظيمة ،كما أشار التميمي، ذاكراً أنه "كتب بلهجة الموصل الدارجة ،وديوانه أبو العتيك حافظ على لهجة المدينة." بدأ شاعراً وانتهى جدليّاً يجب أن نتأمل شخصية عبد الغني الملاح، كما يقول الناقد د.
علي حداد "يجب استخراج القيم المعرفية والإنسانية في شخصيته، فما لا يعرفه البعض عن الملاح انه لم يتجاوز الدراسة الإعدادية وتفرغ لتثقيف نفسه بنفسه، وما ساعده في ذلك التفرغ الكتابي هو انتمائه لعائلة ذات مستوى اقتصادي جيد." للملاح رغبة خاصة في المغايرة وإثارة السؤال الذي قد يبدو مسكوتاً عنه . يذكر حداد أن "ما استوقف الملاح هو ما فعله طه حسين في إثارة السؤال والشك وصولاً لليقين في الكتابة الديكارتية وإثارة السؤال في كتابه "المتنبي يسترد أباه" الذي صار أيقونة ما إن يذكر المتنبي يذكر الملاح."
الملاح يثير قلقنا في تلقي تاريخ المتنبي وهنا يشير حداد لنقطة مهمة "إن الملاح كان محقاً في طرحه للمتنبي بطريقة جدلية في مبرراته وصياغته للوقائع .هذه قضية تفتح باب المجادلة في كثير من القضايا وليس في المتنبي فقط بل في دراسات أخرى، فنحن نميل للسكونية لأننا نفضل التسليم للسابقين من دون مجادلة، كان الملاح حرّاً في تناول مجمل القضايا."
بدأ عبد الغني الملاح شاعراً وأدرك أن سوق الشعر في العراق مزدحم، فقدم ديواني شعر في الأربعينيات ثم غادر هذه المساحة واتجه إلى تنمية الفكر وإثارة الجدل وطرح الإشكالات. "المتنبّي يستردُّ أباه" انحسر الحديث عن كتاب الملاح "المتنبي يسترد أباه" بعد أن كانت الأحاديث السابقة حول شخصية الملاح ذاته، إلا أن الباحث والناقد نجاح هادي كبة اختار الحديث عن كتاب المتنبي للملاح .
وقال إنّ مصادر بحوث عبد الغني الملاح جاءت من نظرية ديكارت "الشك "أساس اليقين." سبق كل من محمود محمد شاكر، وإبراهيم العريض، الملاح في تساؤله "من هو والد المتنبي؟"، يذكر كبة "أن من يستند إلى نظرية محددة ويدخل دراسة التاريخ والأدب سوف يلتقط ما يخدم نظريته، وهذه نقطة ضعف النظريات المسبقة أي نظرية الملاح والعريض وشاكر."
هل استردّ المتنبي أباه؟ سؤال أثاره كبه قائلا "لقد أثار الكتاب الصادر عام 1974 للباحث عبد الغني الملاح جدلاً كبيراً بين أوساط الأدباء والباحثين ،ذلك أنه يتعلق بشخصية المهدي المنتظر، إذ حاول الملاح أن ينسب أُبوّة المهدي إلى المتنبي، وقد مهد الملاح هذا الرأي وسبقه محمود محمد شاكر وطه حسين وإبراهيم العريض، لكلٍّ منهم حججه وأدلته، لكن الشك يباغت القارئ حين يطّلع على أن المتنبي ابن المهدي ."وهنا ذكر كبة إشكاليات كل من " طه حسين وهي أن المتنبي لم يذكر اسم أباه خلال قراءته لديوانه من الغلاف إلى الغلاف، ومحمود محمد شاكر يرى أن المتنبي ابن أحد العلويين فيما يجد إبراهيم العريّض أن والد المتنبي ليس عبدان السقّا بل كان مربّياً له."
أما استنتاجات الملاح فلم ترقَ سوى إلى كونها حججاً. وقدم د. نجاح هادي كبة جانباً من استنتاجات الملاح المسندة إلى قصائده. دلالات وهوامش نعم لقد أثار كتاب "المتنبي يسترد أباه " ضجة في المشهد الادبي والفكري ،ويعود ذلك ،كما ذكر الناقد والباحث معن حمدان، إلى "كوننا مصرّين على السكونية في دراسة الادب، بحيث أنّ أيّ رأي غريب تسنده المصادر والادلة أو لا تسنده سيخلق ضجة بشكل أو بآخر ونحن على علم بالضجة التي رافقت طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي"، وهذا أمر طبيعي لدى شعوب لم تعرف المناهج الحديثة للدراسات." الأغلبية لم تصل لنتيجة الملاح بشكل أو بآخر إلّا أنه رمى حجراً في بحيرة ساكنة، فالمتنبي كما ذكر حمدان "شاغل الدنيا "فهو حي أو ميت مازال شاعر اللغة العربية والعرب لو لم يمتلكوا سوى ديوان المتنبي لكفاهم ذلك."
ويقول حمدان "حين قرأت الكتاب، أي " المتنبي يسترد أباه" وضعت بعض الملاحظات والانطباعات، ولكن هذا لا يعني وصولي للحقيقة ولكنها مجرد ملاحظات وهوامش على الكتاب." ذاكراً جملة ملاحظات حول تعدد روايات اسم أب المتنبي، وأسباب احتمالية كون المتنبي مستتراً خلف اسم مستعار لعدة أسباب، منها خوفه من السلطان، إلّا أنّ حمدان أكد أنّ المهدي ليس أباً للمتنبي من خلال بيت شعري قاله المتنبي. لا يقنع بالقليل الملاح مولع بالابتكار، وكان يسمي العمود الصحافي بالأكتوبة، كما سمّى الباص الحافلة "ذلك انه يحمل جمعاً من الناس أو حفلاً من الناس" .
الناقد شكيب كاظم يتحدث عن كتاب المتنبي للملاح، ويسنده إلى شخصية الملاح ويقول "إن علينا وإن اختلفنا مع الملاح أن لا نهاجمه وننكر جهوده." ظلّ الملاح يُعمِل عقله في ظواهر الحياة، يذكر كاظم أن "عقل الملاح الجوال لا يعمل بأنصاف الحلول وهو ما عذَّبه كثيراً، ربما أخفق الملاح وقد ينجح في موضوع المتنبي ولكن هذا لايعني الإنكار أو الجحود له، فهو إذ أخذ المتنبي بعد أن غربله المغربلون وشاء أن يدرس قراءات طه حسين العابثة في موضوع المتنبي بعمق أكبر."
وكان الملاح يدلي ببراهينه على توجهات طه حسين، مستعيناً بعلم النفس .يؤكد كاظم "قد لا أتفق مع ما كتبه الملاح لكني أغدق فيه على حججه ورأيه وبحثه عن حقائق الحياة، فإذا اكتشف شيئاً فريداً مميزاً استعان به على اكتشاف شيء آخر، فالعقل فيه يعمل على غير قياس حركة العقول الأخرى التي تقنع بالقليل وهو لا يقنع ولا يتوقف عند القليل."
وجه ثقافي تقدّمي استعادة الملاح ذات جانبين أخلاقي وثقافي، هذا ما أكده الناقد علي حسن الفواز، مُعرّجاً على السبب " لأنّ الملاح واحد من الوجوه الثقافية التقدمية التي لامست الكثير من ملامح المشهد العراقي." يحب أن لا ننسى القضايا الإشكالية في كتابات الملاح، وهنا يشير الفواز " اشتغل الملاح على عدة موضوعات لطه حسين والمتنبي وموضوع تاريخ الحركة الديميقراطية العراقية الذي دخل في سياق موسوعته، فضلا عن اهتمامه باللهجات، لأن اللهجات لها مرجعية صوتية وتماسية هذا الموضوع الداخل في مجال الفونولوجيا وتبقى له هذه الإشارة المهمة والتأسيس المهم." التميّز الجلسة شهدت الكثير من المداخلات، منها للكاتب أمين الموسوي الذي ذكر أننا "نبحث عن التميز في ما كتبه الملاح الذي سنجده في كتابه عن المتنبي، والتميز الآخر في ما كتبه عن ألف ليلة وليلة، والتميز عنده في نفسه انه إذا كان إبراهيم العريض ومحمود محمد شاكر واللبناني رضوان الشحات أشاروا إلى علوية المتنبي بعمومية، فإنه قد حدد وخصص ذلك في كتابه وأبحاثه".
وتحدث عبد المنعم الأعسم عن الجانب الصحافي في شخصية عبد الغني الملاح، قائلا "هو كاتب وصحافي من جيل صحيفة الأهالي الموصليّة، وهو صحافي من طراز فريد منتج يستطيع أن يدير أي فكرة ويحولها مادة صحافية، وأنا زاملته على مدى ثلاث سنوات في غرفة واحدة، فهو شخص باسق أنيق في تعامله يختار الكلمة الصحافية، وقد تعلّمت منه الكثير، ومما تعلمته أنه عندما تُطلب منه مادة يستطيع في لمح البصر إنشاءها على معطيات ومواد جذابه من دون سابق تحضير.