لندن - محسن الذهبي
خمسة وعشرون لوحة صغيرة بحجمها لكنها تعبر عن واقع مؤلم رصدتها عين المبدع الفنان دكتور حسام عبد المحسن ، فالانا التي يصرح بها في عنوان معرضه الأخير " أنا والبدر والمطر" ، المقام في قاعة حوار للفنون في بغداد ، تلك هي الانا الجمعية التي تتذكر بحنين الماضي الذي عبر عنه السياب بحزن عراقي الهوى إنساني المعاني في مجمل إنجازه الشعري ، وأعادها الفنان فلاش باك صوري ليعبر عن ذات الحزن الجمعي ، والفنان هنا صوت إنساني يرصد معاناة اجتماعية تتشابه في اللوعة والحزن .
والمصغرات في المفهوم الجمالي أكثر صعوبة في الصياغة الإبداعية والوصول إلى المبتغى التعبيري عن هم كبير بحجم الاجتهاد لقراءة شاعر مهم في التاريخ العربي الشعري المعاصر ، لكن المفارقة أن الفنان عبر عنها بحرفية لونية عالية ، حيث تتجانس وتتجاور الألوان بإبداعية متميزة .
كما ان الفنان استخدم الكولاج الصوري بتأثيرية واضحة ، كصورة الشاعر للتعبيير الذاتي عن حضوره كشريك فعلي في منجز اللوحة وكذلك استعان بكتاباته الشعرية مطبوعة ، فأدخلها بشكل تكميلي إبداعي في متن اللوحة, إذ تبدو الصورة البصرية عند عبدالمحسن انعكاس موضوعي لعلامات دلالية تعود للماضي الممتزج بثراء إرث السياب الجمالي والغنائي ، والمجسد لروح العراقي الحزين الذي يقف عند إطلال الأشياء ليخاطبها بحنين العاشق ، ليحولها هنا إلى فضاء واسع من رمزية خاصة ، إلى رؤية إنسانية عامة .
فلم تعد شناشيل أبنة الجلبي تلك الأيقونة السيابية البهية المضاءه بأسطورة الحب ، بل أمست رمز أيقوني حكائي أخر يحاكم الواقع البعيد ، ويأخذ من جماليات موروثة صورة المجاز الاستعارية فهو يمازج الألوان حولها، حتى غدت شناشيل زمن أخر هو الزمن المعاش الأن ، لتشكل تلك الدلالة التصويرية محاولة واعية للجمع الحميمي بين الذاكرة الجمعية التي ارتبطت بروح المكان وبين قراءة الواقع برؤية الإلهام .
ويعد المكان الطبيعي لروح المعنى يكمن في الرؤية الخارجية والمظهرية لذات المعنى مجسده بروح اللغة ، يقابلها في التشكيل روح الصورة ، حيث التقاط مبررات تجسيد الجزئيات لرسم معنى اوسع وأكثر تعبيرية ، أذ يرصد الفنان جملة علائق جمالية في رسم الواقع وتحليل المدلولات عبر تحويل اللغوي إلى وصفي ، بخطاب جمالي تجريدي يفسر الواقع بمرجعيات لها أرث وتاريخ جمعي .
فهو يفسر الرمز الشعري كرمز لوني تدور معانيه في الاستعارة وإعادة تشكيل روح الخطاب الشعري والانتقال به إلى منجز بصري يبهر العين والروح معًا , أي أن الفنان هنا انتقل بنا من الراسخ الثابت إلى روح الانفعال المضطرب إبداعيًا ، من خلال استدعاء صورة مركونة بالذاكرة إلى صورة أخرى أكثر انفتاحًا ، هي صورة لونية تقرب المخزون من معاناة الواقع حيث تتلاشى الفوارق بين زمن الشاعر وزمن الفنان ، وليعود الزمن واحد لكن بفارق الأسى القديم بحزنه والجديد بذات الحزن وأكثر .
وما يحسب لصالح الفنان نجاحه في جمع مدلول النص الشعري وتحويله لنص بصري متجانس يتحد في توصيف الواقع عبر جمع الأزمنة والخروج بزمن أخر هو زمن لحظة الإبداع من طرف ولحظة القراءة في عين المتلقي من الطرف الاخر .
فإنها لعبة الفنان في الانتقال بالمشاهد عبر أزمنة مختلفة كي يعيش معه قراءته الذاتية العاشقة لروح السياب وذاكرة المتلقي القاريء لشعر السياب ، حيث تنسجم غاية الدلالات الزمنية لتوصيف التعبير البلاغي التشبيهي بتركيبات جزئية في صورة الشاعر وبعض من كلمات قصائده الملصقة بعناية وسط زخم الألوان محاكاة دلالية لجزئيات أساسية في الايحاء لتثوير الجانب المتخيل للمتلقى واستفزاز لذاكرته في ضمنية واضحة المقاصد تؤكد مرارة الواقع وتكشف بصورة جليه اتحاد معاناة وصدى صراخ الفنان والشاعرمعًا في آن واحد .
وإن اختلفت الأزمنة عبر عملية استدعاء ومحاكاة روح الشعر، ومحاولة نقلها إبداعيًا لصورة ملونة تتكلم عن ذات المعاناة فقد استعار الفنان صوت السياب الحزين ليرسم لنا أحلام افراح منتظرة ، في مقاربة وجدانية ، وحوار أشبه ما يكون ببكاء أمل يصرخ عاليًا برموزه , يقول غاستون باشلار في جماليات المكان "إننا نعيش لنبني بيتًا وليس نبني بيتًا لنعيش فيه" ، لقد كان دكتور حسام عبد المحسن قصدي في الرجوع إلى بويب وشناشيل إبنة الجلبي ومرابع البصرة وجماليات إيحاء المكان في ذاكرتنا كي نبني معًا رؤية أكثر نقاء في مرجعيتنا البحثية عن روح الجمال ولكي يغسل المطر ما تدرن بأرواحنا من فجيعة .
ولعل نظرة الفنان كانت اعمق في إهتمامه بالضوء كعنصر ليس منفصل بتعبيريته وإنما حاول الإهتمام بتغلغه في الحياة وبامتداده في أعماقها ، متواصلًا إلى فهم قائم على الملاحظة المباشرة وعلى التجاوب الملموس مع رؤية قوة الضوء وتلاحمه مع صراحة الألوان حينا واندماجها مع بعض حينا أخر، مستغلًا تعبيريتها الحسية التي توحي بحزن شفيف ، ويفسر ذلك بحثه الدائم في اكتشاف البساطة الموحية والتي كان يبحث عنها وإدراكه لها .
ومهما اختلفت أو توحدت رؤى الفنان وقربه من روح الشاعر والتي عالج فيها المعاناة الانسانية وخاصة معاناة الإنسان المعاصر هي تلك التي كانت دائمًا تجذبهما معًا للتوحد في الجمع بين النقيضين الضوء والظلام ، الوجود والعدم ، الحياة والموت مما أضفى على لوحات الفنان سمة الأنين المكتوم لكنه أنين غارق في الغنائية ، فهو أنين معتصر من إدراك مرارة الواقع .
المتلقى لن يقف عند أشكالها السطحية بل تتوغل العين في أبعادها وفيما وراء الشكل الخارجي لتمتد إلى عمق الروح ، ولعل هذا الأسلوب خلق تجاوبًا إنسانيًا في التعامل مع المضمون الفني دون أن تكون هناك قيود معلبة أو احتكار للتفسير بل هو استدراجه للغوص في روح اللوحة دون أن يملي عليه الفكرة بل ترك له حرية الفهم ، وليقدم لنا صياغة متميزة لفن راقي الإحساس والفكرة ، ويبقى هذا المعرض تجربة مهمة وثرية تشبه زخة مطر في روح التشكيل العراقي المعاصر .