القاهرة - اليمن اليوم
أسهمت الاستثمارات الآسيوية في النهوض بكثير من اقتصادات القارة الأفريقية، حيث لم تعد رهينة لهيمنة الاستثمارات الأوروبية إذ أصبح للصين حضور قويّ في القارة السمراء، الأمر الذي جعل من الصين منافسا شرسا أمام المستعمر الأوروبي القديم.
ويقدر خبراء اقتصاد حجم استثمارات الصينيين في القارة الأفريقية بمئات المليارات، منها في جيبوتي والسودان وغيرهما، واليوم فتحت خطّاً على إثيوبيا، وفي السودان لم يسبقها أحد منذ سنوات في بناء مدارس ومستشفيات وشق الطرقات معتمدة بذلك على سياسة تلبية الحاجات الأساسية للناس، في الوقت نفسه تستخرج الشركات الصينية النفط من شمال الجنوب السوداني، ورغم التوتر الأمني يوجَد هناك المئات من الاختصاصيين الصينيين.
وساعدت الاستثمارات الصينية عدداً من البلدان الأفريقية على الخروج من خانة الفقر بل إن بعضها صار مستثمراً بارزاً في بلدان أوروبية كانت تستعمرها في الماضي. فالقليلون يعرفون أنه ومنذ بداية أزمة اليورو والبرتغال تعتمد بشكل كبير على مستثمرين أفارقة، إذ إن حجم الاستثمارات الأنغولية لديها على سبيل المثال قفز من 1.6 مليون يورو عام 2002 إلى أكثر من 200 مليون يورو عام 2009، وهو في ازدياد مطرد، كما أن زيارات البرتغاليين على مختلف المستويات إلى العاصمة لواندا لا تنقطع، وليس هذا فقط، فأكبر مانح للقروض للبرتغال الغارقة بالمشكلات المالية هي المصارف الأنغولية، وتمتلك شركة النفط الأنغولية الحكومية “سوناغول” نسبة 14 في المائة من مصرف “ملينويم بانكو كومرسيال برتوغيز”، وهو أكبر وأهم مصرف برتغالي، وذلك منذ شهر يوليو (تموز) عام 2012، واليوم ارتفعت الحصة إلى 20 في المائة، وبهذا تحول المستعمر إلى طالب للقروض من دولة كانت يستعمرها.
والأمر لا يقتصر على إقراض المصارف الأنغولية أموالاً طائلة لبلد أوروبي غربي، بل تحولت أنغولا إلى بلد يبحث فيه البرتغاليون عن مورد رزق هناك، وتشير بيانات وزارة الداخلية البرتغالية إلى أن حركة الهجرة لا تنقطع ووصل العدد في عام 2014 وحده إلى مائة ألف برتغالي، لكن الأرقام الحقيقة حسب مصادر مطلعة أكثر بمرتين أو بثلاث مرات، لذا تفكر الحكومة الأنغولية في فرض قيود للحد من تدفق البرتغاليين خاصة ذوي الكفاءات المحدودة، هذا القارة التي كانت تأن تحت وطأة الاستعمار الأوروبي لعقود طويلة أصبح لدول كثيرة فيها موقع مهم نظراً لقدرتها على مواكبة تطورات الاقتصاد العالمي.
وبدأ التطور بخطوات صغيرة منها على سبيل المثال انتشار الاتصالات المنتقلة في أجزاء كثيرة من أفريقيا، التي كانت تفتقر إلى شبكة هواتف عادية حتى بداية الألفية، واليوم فإن نسبة مستخدمي أجهزة الهواتف النقالة ومن يمكنه الوصول إلى منفذ كهربائي لا تعد ولا تحصى. حيث قفز عدد الهواتف الجوالة من 4000 عام 1989، وكانت محصوراً بالطبقة الغنية، إلى أكثر من 633 مليون عام 2012، خُمس هذا العدد من الهواتف الذكية. وبذلك، فإن شبكات الاتصالات المتنقلة التي تعد ركيزة التطور الاقتصادي، ساعدت على ربط أفريقيا بعضها البعض وبالعالم الخارجي أيضاً، وليس هذا فقط، إذ دلت دراسات على أن الأفريقيين أكثر دراية من الأوروبيين فيما يتعلق بالتعاملات المصرفية عبر الهاتف الجوال والمعاملات المالية عن طريق نقل الوحدة، وإلى جانب التطور التقني ازداد عدد سكان المدن الكبيرة، فحتى عام 1950 لم يكن هناك مدينة واحد عدد يصل عدد سكانها إلى مليون، واليوم يوجد أكثر من 35 مدينة منها كينشاسا في الكونغو، التي قفز عدد سكان من 160 ألف إلى عشرة ملايين، وكل هذه العناصر تجعل القارة الأفريقية لاعبا مهما في الاقتصاد العالمي. ولقد أدى التشابك الاقتصادي المتنامي إلى ظهور طبقة اجتماعية متوسطة ذات وعي ذاتي وعالمي، اتجهت في عدد من البلدان الأفريقية إلى التخطيط لإدارة ثروات بلادها.
وهذه التطورات الاقتصادية وبروز رجال أعمال ومستثمرين من بلدان غير أوروبية غيرت صوراً كثيراً، فبعد أن كان الأوروبيون هم نزلاء الفنادق الفخمة في أفريقيا أصبح الضيوف الجدد رجال أعمال من الصين والهند والبرازيل، إضافة إلى رجال أعمال أفارقة أيضاً، وبدأ تأثير المساعدة الصناعية الأوروبية على الدورة الاقتصادية الأفريقية يتراجع بشكل لم يعد بالإمكان إيقافه. وهنا يقول محللون اقتصاديون إن بقاء الغرب على اعتقاده بأنه هو الجانب الذي يصدر الأوامر بدلا من أن يصبح شريكا تجاريا سببه عدم قدرته على تجاوز تصوراته الاستعمارية القديمة.
ومن المفارقات أن الصينيين الشيوعيين هم الذين أخذوا أفريقيا بجدية كشريك تجاري، وكان مجيء الصينيين إلى أفريقيا في البداية لتأمين إمدادات المواد الخام الخاصة بهم والوصول إلى أسواق جديدة ولهذا ركزوا على بناء البنى التحتية، واليوم وفي الوقت الذي ما زال الأوروبيون متمسكين بعقلية المستعمر، يتجاوز عدد الصينيين في أفريقيا المليون، ناشطين في القطاع الاقتصادي بكل فروعه، ولقد جلبوا معهم أيضاً تجاربهم الجديدة في التصنيع وتحديث الاقتصاد، ولم تبقَ الصين وحدها، بل أعقبَتْها الهند والبرازيل وتركيا وبلدان أخرى غير أوروبية. وكما يقول يوزيف ريغلر، المحلل الاقتصادي الألماني، أن على أوروبا أن تقبل حقيقة أن بلدانا أخرى تتحكم أيضاً بقواعد اللعبة العالمية.
وبجانب الصين أصبح للهند دورا مهم في القارة السمراء، إذ أدركوا أهمية هذه القارة فاستثمروا في قطاعات مهمة منها شبكة الاتصالات. ففي عام 1998 تأسست شركة “سلورا” للاتصالات الدولية والهواتف النقالة التي غيرت اسمها عام 2004 وأصبح “سيل تيل” لتُباع عام 2008 إلى مؤسسة “زين” الكويتية، لكن اسمها أصبح في عام 2010 “إيرتل أفريكا” عقب شرائها من قبل المؤسسة الشركة الهندية “بارتي ارتل”، ولها اليوم مئات الفروع مثلا في كينيا والغابون والكونغو وتنزانيا وغيرها. وفي مارس (آذار) هذا العام أعلنت “إير تل أفريكا” مع شركة “تيغو” الغانية عن تأسيس مؤسسة “إير تيل” غانا ولديها 78 مليون مشترك، لكن تظل الصين لاعباً ثقيلاً في أفريقيا إذ وصل حجم التبادل التجاري بينها وبين بلدان هذه القارة عام 2012 إلى 200 مليار دولار، بزيادة 20 مرة عن مطلع عام 1990.
وهنا يقول مدير مصرف التصدير الصيني، تشاو تشانغ هوي، من بنك الاستيراد والتصدير الصيني المملوك للدولة، إن أفريقيا تعني الفرص وتعني المستقبل والكثير من الصينيين يعتقدون أن مستقبل الصين يعتمد على أفريقيا. ويعود السبب في ذلك إلى توفر المواد الخام التي تساعد هذه القارة في نموها وإمدادات الطاقة والهياكل الأساسية، بالطبع للفساد وجود وهو عامل يؤخذ بعين الاعتبار، ويضيف تشاو تشانغ هوي بأن الحرب الأهلية في جنوب السودان لا تردع الصينيين عن إبرام عقود عمل، فعلى سبيل المثال أعلنت شركة سكك الحديد الصينية في يناير (كانون الثاني) الماضي أنها ستبنى خط سكة حديد بتكاليف تصل إلى 1.5 مليار دولار في شرق السودان.
هذه الفلسفة تفتقر إليها ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى وتواصل التردد، لذا فإن حجم تبادلها التجاري مع أفريقيا لا يشكل سوى جزء بسيط مقارنة بحجم التبادل التجاري مع الصين، والألمان لم يفهموا بعد ما يحدث في أفريقيا وكيف يمكن تقييم المخاطر هناك حقّاً.
وويقول فولفغانغ فيتسيل، الأمين العام للمبادرة الألمانية للتعاون الاقتصادي مع بلدان أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى: “بالنسبة لنا لا معنى لدخول المنافسة مع الصينيين من أجل بناء الجسور أو الطرقات واستغلال المواد الخام، فأفضل وقت للألمان لم يأتِ بعد. ومن المهم دخول أفريقيا في الوقت الذي تستخدم فيه عمليات التصنيع المتطور، فهذا يجعل التزام الاقتصاد الألماني أقوى حين يتم الاعتماد على تقنيات عالية”، وبالطبع، هناك وجود ألماني في كثير من البلدان الأفريقية لكنه قليل، ففي جنوب أفريقيا وهي أكبر البلدان الصناعية في القارة يوجد 600 شركة ألمانية نشطة، ولكنها لا تُسهِم فعليّاً في تطور صناعة تحتاج إلى آلات ومعدات ألمانية حديثة؛ فحتى الآن فإن ما يصدر هو في الغالب لقطاع الزراعة والخدمات وتصدير المواد الخام، ما يعني أنها لا تستغل عوامل التطور، وذلك على الرغم من أن ارتفاع الأجور في كثير من البلدان جعل لأفريقيا على نحو متزايد موقعاً تنافسياً في الصناعة، حتى إن اقتصادات بعض البلدان الأفريقية كجنوب أفريقيا وكينيا سوف تصبح قريباً، كما هو رأي كثير من الاقتصاديين الدوليين، شبيهة باقتصادات بلدان جنوب شرق آسيا، وقد يختلف المدير الأسبق لمؤسسة البحوث الاقتصادية ومقره في فيينا، كارل انغينغر، مع فيتسيل حيث قال في دراسة له بعنوان “أوروبا بحاجة إلى خطة لجيرانها (أي الأفارقة) فهذا يعود لصالحها”، إن هذه البلدان بحاجة إلى خطة شبيهة بخطة مارشال التي وضعها الأميركيون لألمانيا ما بين عام 1947 و1952 بعد الحرب العالمية الثانية، وكان لها تأثير إيجابي جدّاً، وأضاف أنّه “فإما أن نأخذ بالفرص العملاقة وأن نستطيع معاً استخدام الإمكانات الهائلة لهذه القارة من أجل تحقيق الازدهار الاقتصادي وفرص التقدم الاجتماعي والسلام الدائم، أو أن ننزلق معاً إلى كارثة عندما يحاول مئات الملايين من الأفارقة الفرار من بؤسهم إلى أوروبا”.
ويرى عالم الاقتصاد النمساوي أن الجهود الأوروبية ولسنوات كانت مثل النضال ضد طواحين الهواء. وزاد الوضع تعقيداً معالجة مشكلات أفريقيا بتقديم الملايين من القروض دون وضع خطط تنمية لهذه القارة، ومن المحتمل أن تكون ألمانيا قد أدركت أن مستقبلها فعلاً في أفريقيا، لذا أطلقت في بداية هذا العام مبادرة واعدة عُرضت في مؤتمر ببرلين جمع كثير من ممثلي الدول الأفريقية، حيث قدم جيرد مولر، الوزير الاتحادي للتعاون الاقتصادي والتنمية، “خطة أفريقيا وأوروبا - شراكة جديدة من أجل التنمية والسلام”، ينصب فيها التركيز بشكل رئيسي على تدابير الدعم من أجل التنمية الاقتصادية المستقلة في أفريقيا، وبالتالي خلق فرص العمل والوظائف، لا سيما للشباب في هذه القارة، فمستقبل أفريقيا هو أيضاً مستقبل ألمانيا ومستقبل أوروبا.