أنقرة - اليمن اليوم
لم تقتنع الأسواق بما قاله وزير المال التركي برات البيراق، عن الأزمة الاقتصادية وحلولها. وبدأ المؤتمر الصحافي جيدًا نسبيًا فتحسن سعر صرف الليرة قليلًا، لكن مع نهاية ذلك المؤتمر تراجعت العملة وهبطت أسعار أسهم المصارف في البورصة. وتحدث الوزير تحت عناوين عدة، أبرزها "إعادة التوازن، التنظيم والتطوير"، وكان واقعيًا إلى حد كبير في ذكر الأرقام، ولا سيما التضخم المتوقع في 2018 بنسبة 20.8 في المائة، وهو الأعلى منذ وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة في 2003، وذكر أن النمو هذه السنة قد يبلغ 3.8 في المائة وبحلول 2019 يصل لنحو 2.3 في المائة، علماً بأن التوقعات السابقة كانت 5.5 في المائة للسنتين المذكورتين.
وعلى الرغم من إعلان هذه الأرقام الأقرب إلى الواقعية، بقى المستثمرون متشككين لأن الوزير لم يتحدث عن الأزمة المصرفية التي طلت برأسها، بقوة مع توقع موجة تعثر في هذا القطاع. فالمقترض بالدولار أو باليورو سيواجه صعوبة بالغة في السداد بعدما هبطت الليرة أكثر من 60 في المائة هذه السنة، كما لم يقتنع المستثمرون بما قاله الوزير عن إجراءات خفض عجز الموازنة، وقال أحدهم "لم نسمع تفاصيل تطمئننا ولم نلمس أن هناك إجراءات للمدى الطويل تصلِح الاختلالات الهيكلية... وما أكثرها!" وفق صحيفة الشرق الأوسط.
الاقتصاد التركي فقد الكثير من أوراقه الرابحة
تُجمع المصادر المطلعة على أن الأردوغانية الاقتصادية فقدت الكثير من أوراقها الرابحة، ووصلت إلى ما يشبه الطريق المسدودة نسبيًا مع بعض المخارج الصعبة، لكن غير المستحيلة، إذا طبقت إصلاحات جذرية تصحح المسار المأزوم حالياً، ولا تتواني المصادر عينها عن ربط عرى الاقتصاد بالسياسة، مشيرة إلى أن النجاحات التي حققها أردوغان في مدى أكثر من 10 سنوات حتى عام 2016 كانت قائمة على الانفتاح الاقتصادي والبراغماتية السياسية. إلا أن شيئاً ما حصل في شخصيته دفعه إلى خيارات مختلفة. وتفاقم ذلك منذ الانقلاب الفاشل الذي تعرض له في يوليو/تموز 2016. ولا سر في القول، بالنسبة لعدد من المراقبين، أنه فقد بعض رباطة جأشه، وجنح نحو سلطوية أكبر في اتخاذ القرارات، فإذا بالاقتصاد يتأثر ويُظهر علامات ضعف كان يمكن معالجتها بشكل أفضل، خصوصاً أن انخفاض الليرة كان بدأ منذ ذلك الحين، وبلغ هبوط الليرة منذ سبتمبر/أيلول 2016 حتى سبتمبر/أيلول 2018 نحو 106 في المائة، وكان يجب التصدي لذلك منذ غداة الانقلاب، لكن الحبل ترك على غاربه حتى تفاقمت أزمة العملة الوطنية لتورث أزمات أخرى.
وخاف مستثمرون من زيادة قبضته على الإعلام بعد الانقلاب الفاشل، وفرض هيمنته على شركات ومؤسسات قيل إنها تعود لمتواطئين ضده أو ضد سياساته. إلى ذلك، عانى الاقتصاد من عوامل أخرى، مثل عودة الفاتورة النفطية إلى الصعود وارتفاع كلفة الاستيراد مع ارتفاع الدولار.
وجود أزمة على الرغم من النمو المرتفع
وتشير المصادر التركية وغير التركية إلى أن الضعف المالي كان بدأ يظهر منذ 2017 على الرغم من تحقيق نمو بلغت نسبته 7.4 في المائة. بيد أن ذلك النمو كان هشًا لأنه بني على توسع هائل في الإنفاق العام وعلى اقتراض واسع النطاق، ولا سيما من قبل القطاع الخاص، فأدى ذلك إلى تضخم من خانتين (فوق 10 في المائة) في بداية 2018 حتى وصل إلى 18 في المائة. وكان أردوغان قرأ ما ورد في تقرير لوكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد آند بورز" بداية العام الجاري؛ إذ خفضت الوكالة درجة تصنيف جودة الدين العام، وتوقعت أزمة مقبلة وهبوطًا إضافيًا لليرة وارتفاعًا أكبر في التضخم. وشعر أردوغان بالخطر عندما بدأت الطبقات الشعبية تتذمر بسبب تآكل القدرة الشرائية وتراجع المداخيل الحقيقية بفعل التضخم المستفحل، وساد آنذاك تهافت على الدولار حتى وصلت نسبة ادخار الأفراد والأسر بالعملة الأميركية إلى 45 في المائة حالياً؛ ما دفع البنك المركزي لرفع الفائدة في أبريل /نيسان الماضي بشكل خجول وبواقع 75 نقطة أساس لم تغير شيئاً في المعادلة.
تراجع شعبية أردوغان
ويعتمد أردوغان أساسًا على الطبقات الشعبية في انتخاباته، وأظهرت استطلاعات الرأي أن شعبيته لا تتقدم كما في السابق؛ إذ وصلت إلى سقف ما يصعب تجاوزه؛ لذا لجأ إلى لعب ورقة الانتخابات التشريعية والرئاسية المبكرة التي أجريت في يونيو/حزيران الماضي أي قبل موعدها بـ18 شهراً، والتي خاضها أردوغان ليعزز سلطته وصلاحياته أكثر باتجاه السلطات اللامحدودة أحياناً، وخاض الانتخابات ليفوز بها قبل "أن تقع الواقعة"، على حد تعبير مصرفي عربي مخضرم تحدثت إليه "الشرق الأوسط"، لتستطلع رأيه، وعشية تلك الانتخابات كان أردوغان يوعز بزيادة الإنفاق الجاري، ولا سيما عندما منح المتقاعدين علاوات سخية ووعد مزارعي الشاي وغيرهم بالدعم، وخفض بعض الضرائب أملاً في إرضاء الناخبين. أما الواقعة فتمثلت في هبوط كبير إضافي لسعر صرف الليرة في الفترة التي تلت الانتخابات، وبخروج ملموس للمستثمرين الأجانب الخائفين من "المعالجات العشوائية للأزمة" بحسب مصرفي فرنسي.
وبالعودة إلى التشخيص المالي والاقتصادي يجدر التذكير بأن البنوك المركزية العالمية، وفي مقدمها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، بدأت في تشديد السياسات النقدية، ولا سيما هذه السنة والسنة الماضية، وبدأت فوائد الدولار في الارتفاع، وتعزز سعر صرف العملة الأميركية. هذا المستجد دفع بأموال كانت موظفة في الأسواق الناشئة، ومنها تركيا، إلى العودة إلى الولايات المتحدة المزدهرة باقتصادها وأسواقها، وبخاصة بعد انتخاب ترمب رئيساً. وفي الحالة التركية، كان القطاع الخاص قد توسع كثيراً في الاقتراض بالدولار واليورو لتستفيد الشركات التركية من انخفاض الفوائد إلى أدنى مستوياتها التاريخية في مرحلة ما بعد الأزمة المالية التي اندلعت في 2008. فارتفعت تلك الديون إلى 200 مليار دولار لتشكل أكثر من 65 في المائة من الناتج.
ومع هبوط الليرة وارتفاع الدولار واجهت تلك الشركات صعوبة في سداد الديون التي كان معظمها قصير الأجل، كما واجهت ارتفاعًا في تكلفة الإنتاج للأسباب نفسها. ويذكر في هذا المجال أيضاً أن الحساب التركي الجاري تفاقم عجزه ليبلغ 6.5 في المائة من الناتج مع الهبوط التدريجي لسعر صرف العملة المحلية، ولا سيما منذ الانقلاب الفاشل، وكان ذلك العجز يمول تاريخياً من تلك الديون الخارجية.
أما عجز الموازنة فقد تفاقم هو الآخر متأثرًا بالتوسع الهائل في الإنفاق العام، ولا سيما الإنفاق على المشروعات العملاقة التي أرادها أردوغان تحت شعار "تركيا العظيمة"، ومن تلك المشروعات أنفاق وجسور ومطارات بكلفة عالية جداً مقابل عوائد قليلة منها. وذلك الإنفاق أعطى منشطات للنمو الذي ارتفع بشكل جيد في 2017 بعد تأثره سلبًا بتداعيات الانقلاب الفاشل في 2016، لكنه كان نموًا هشًا في مكوناته؛ لأن القطاع الخاص استمر في التركيز على العقارات التي شهد قطاعها عرضًا أكبر من الطلب، وركز على مشروعات تجارية وسياحية تأثرت بموجة الاعتداءات والتفجيرات الإرهابية التي تعرضت لها تركيا بفعل وصول بعض ألسنة لهب الحرب السورية إليها، كما بسبب احتدام النزاع التركي - الكردي، ثم وقعت أزمة مع روسيا بعد إسقاط طائرة حربية، وأتت النزاعات التجارية الدولية لتتوج كل ذلك بتأثيرات سلبية إضافية.
رفع أسعار الفائدة لمواجهة الأزمة
ولمواجهة التضخم الراكب صهوة جواد جامح كان لا بد من رفع أسعار الفوائد بحسب المصرفيين الدوليين؛ فهذا هو العلاج الضروري في حالة كهذه. وهنا أيضاً اصطدم المستثمرون والمصرفيون برأي مخالف للرئيس أردوغان الكاره لرفع الفائدة، معتبرًا إياها "أم المشكلات" من وجهة نظر دينية، كما قال مستشاروه. وظهرت مشكلة عدم استقلالية البنك المركزي الراغب في رفع الفائدة، لكنه خائف من أردوغان.
والأنكى، برأي المصادر المالية الدولية، أن الرئيس التركي لم يترك مناسبة إلا واستغلها لفرض وجهة نظره الأحادية في هذا المجال. وذهب به الأمر في مايو/أيار الماضي وخلال اجتماع في لندن مع مصرفيين ورؤساء صناديق استثمارية إلى القول "أنا السياسة النقدية، والسياسة النقدية أنا!"، ما زاد خوف هؤلاء على استقلالية البنك المركزي التركي ومصداقيته. وفي كل مرة كان "المركزي" يرفع الفائدة، ولا سيما خلال شهر سبتمبر/أيلول الجاري، كان الرفع يأتي متأخراً أشهراً عدة عن موعده المطلوب.
وما زاد الأمر برأي المصرفيين، تلك القرارات التي تصدر بمراسيم هي أقرب إلى "الفرمانات" مثل تقييد التعامل بالدولار وتغيير حدود الاقتراض وفرض ضرائب على ودائع العملات الأجنبية مقابل إلغائها على العملة الوطنية... ما أعطى انطباعاً بالتخبط أحياناً في ظل غياب الحزمة الإصلاحية المتكاملة القائمة ليس فقط على السياسات النقدية، بل المالية أيضاً لجهة خفض الإنفاق ومعالجة عجز الموازنة. ويقول أحد المصرفيين "تلك القرارات المتسرعة حيناً تعبر عن حالة هلع ما في مكان ما".
سياسة أردوغان انشغلت كثيرًا بتنشيط النمو بأي ثمن
وتضيف المصادر المالية الدولية المطلعة، أن سياسة أردوغان انشغلت كثيرًا بتنشيط النمو بأي ثمن حتى لو تطلب الأمر هيمنة إضافية من قبله على مرافق معينة مثل الصندوق السيادي الذي تأسس في 2016، ثم عيّن نفسه رئيساً له مؤخراً وعين صهره وزير المالية نائباً للرئيس.
وأراد أن ينقل إلى هذا الصندوق أصولاً حكومية مثل مساهمات في بنوك وشركات اتصالات ومواصلات وتوزيع غاز، على أن يسمح للصندوق بالاقتراض بهدف الاستمرار في تمويل المشروعات العملاقة التي وصفها غربيون بالمشروعات "المجنونة" أو المفعمة "بإحساس العظمة"، بدليل أن تسويقها إعلامياً أتى تحت شعار "افتخري بعظمتك يا تركيا!". فأردوغان يعلم أن هذا النوع من المشروعات كان تاريخياً يزيده شعبية، ويريد الاستمرار على هذا المنوال رغم انتقادات لعمل الصندوق؛ لأن بعض تعاملاته غير شفافة من وجهة نظر المنتقدين، وأنه يعتمد في تمويل المشروعات على شراكات مع القطاع الخاص الذي يحظى بضمانات نسبتها 80 في المائة من التمويل مقابل عوائد ليست على المستوى الحقيقي للجدوى الاقتصادية المتوقعة من تلك المشروعات والمرافق.
وعندما تعلو بعض الأصوات المحذرة من التوسع في الإنفاق المؤدي إلى نمو غير صحي مصحوب بالتضخم، يرد أردوغان إما بعنف أو استهزاء، كما قال مرة لمنتقدي سياسية تحفيز النمو بأي ثمن "إنكم تغارون فقط!"، وعندما كانت الآراء تحتدم مطالبة برفع الفائدة كان يعترض بشدة حتى قال في 31 مارس/آذار الماضي "إن خفض التضخم ليس برفع الفائدة، بل بخفضها، ومن يدعي خلاف ذلك فحسابه معي".
وبالإشارة إلى تعنته أيضاً، برأي بعض المستثمرين، قوال عضو في اتحاد أرباب العمل التركي "طالبناه بتطبيع الأوضاع وإلغاء حالة الطوارئ المدة 8 مرات، فإذا به يتهمنا غاضباً بأن ذلك ضد مصلحة البلد، ومؤكداً أن حالة الطوارئ مستمرة وستمدد". ويضيف ذلك العضو "هناك اعتقاد بنظرية المؤامرة المستمرة؛ ما يدفع الرئيس للتحدث والتصريح بشكل شبه يومي. وهذا لا يطمئن المستثمرين كثيراً، بل يجعلهم حذرين أكثر". كما أنه يرفض أي تدخل من صندوق النقد الدولي كما فعلت مصر والأرجنتين ودول أخرى كثيرة، متمسكاً بنظرية "السيادة الاقتصادية"، وتراوده أحلام أخرى بين الحين والآخر مثل وقف التعامل بالدولار ومفاوضة الصين وروسيا ودول أخرى للتعامل بالعملات الوطنية في الاستيراد والتصدير، لكن الأسواق لا ترضخ لهكذا محاولات بالنظر إلى خطورة ذلك من جهة وعدم واقعيته من جهة أخرى.
وتختم المصادر بالقول "تركيا بلد كبير ومحوري جيوسياسي في المنطقة والعالم، وفيه قطاعات صناعية وزراعية وخدماتية وسياحية وإنتاجية واعدة، وموارد بشرية جيدة نسبياً، ويتمتع بموقع جغرافي تحلم به أي دولة تريد حجز مكان مرموق على الخريطة الاقتصادية الدولية؛ لذا فلا خوف كبيراً على البلاد من انهيار اقتصادي شامل، لكن كل الخوف يأتي من بعض التعنت في السياسات التي ظهر أنها خاطئة أحياناً وتحتاج إلى تصويب اليوم قبل الغد، وهذه الكرة في ملعب أردوغان وحده دون سواه"