باريس ـ مارينا منصف
يحضر شبه الجزيرة الكورية في مهرجان "كان" وبقوة ، ويعرف رواد المهرجان دائمًا ، أن بإمكانهم الاعتماد على فناني السينما الكوريين الجنوبيين لتقديم مفاجأة أو مفاجأتين بين الحين والآخر.
وتقدم كوريا الجنوبية البلد الصاعدة سينمائيًا بقوة صعوده اقتصاديًا ، تقدم جديدًا في الفن السابع وعلى غير صعيد ، ولكن الجديد الذي لم يكن في حسبان أحد، يأتي من مكان ناء ، من المقلب الآخر لخط الحدود الفاصل بين جنوب كوريا وشمالها ، مما يعني أنه للمرة الأولى منذ أعوام ، نكتشف على شاشة "كان" ، صورة لبيونغيانغ ، ولكنها ليست صورة التقطها سينمائي من أهل ذلك البلد المشاكس ، بل هي صورة في فيلم السينمائي والكاتب الفرنسي كلود لانزمان الذي يزعم أنه تسلل خلسة ليصوره في بلاد الحفيد الحاكم، كما سنرى.
قبل ذلك، تتوقف عند فيلمين كوريين جنوبيين يشاركان في المسابقة الرسمية، يمكن التكهن منذ الآن بأنهما من الأفلام التي سيكون لها شأن في حفلة الختام ، ولئن كان هذا التكهن يبدو مجازفًا بعض الشيء بالنسبة إلى الأول، "أوكيا" لبونغ جون هو، ليس لسبب يتعلق بالفيلم ذاته، فهو في نهاية الأمر تحفة فنية صغيرة، بل لكونه الفيلم الذي أثار المقدار الأكبر من الضجيج لأنه سجّل هجمة النتفلكس على عالم العروض السينمائية بالنظر إلى كونه لا يعرض في الصالات، وبالتالي هو ضد السينما بالمعنى السائد ، فإن الفيلم الثاني "اليوم التالي" لهونغ سانغ سو، يبدو في موضوعه البسيط وحواراته المدهشة وأداء ممثليه وتقشفه العام ، عملًا بديعًا لم تشهد السينما العالمية ما يشبهه منذ زمن بعيد.
يدور موضوع الفيلم حول علاقة ثلاثية بين ناشر وزوجته والعاملة في مكتبه، لكن المدهش أننا لا نشاهد هذه العلاقة غالبًا إلا من منظور فتاة أخرى كان يمكن في أي لحظة أن تكون طرفًا رابعًا في العلاقة ، ذلك هو كل شيء حتى لحظات النسيان العميقة التي تختتم الفيلم بطريقة كان من شأن بول ريكور، فيلسوف الذاكرة والنسيان، أن يجد فيها ما يثير إهتمامه ، منذ الآن نكاد نقول أن "اليوم التالي" يشكل واحدة من اللحظات المميزة في مسابقة مهرجان "كان".
ويعد فيلم "نابالم" لكلود لانزمان، شكّل لحظة مميزة أخرى ولكن ليس للأسباب ذاتها وليس بالتكهنات عينها ، فهو بعد كل شيء لا يُعرض في المسابقة الرسمية وليس عملًا روائيًا إنما هو مجرد شريط صوّره مخرجه الذي اعتادت أفلامه ، لا سيما تلك التي تبرر لإسرائيل وجيشها كل ما يقترفانه بدءًا "من لماذا إسرائيل؟" مرورًا بـ"جيش الدفاع الإسرائيلي" وصولًا إلى "شوّا" عن المحرقة أن تثير مقدارًا كبيرًا من السجالات فيما يتعلق بمسألة الصدقية، ولسنا ندري ما سيكون الأمر عليه بالنسبة إلى ما يزعم لانزمان من تسلله ، والتصوير بكاميرا خفية في بلد يقول أن ثمة فيه عشرة مخبرين بين كل مخبر ومخبر.
المهم أن لانزمان الذي كان زار بيونغيانغ في عداد أول وفد غربي دعا إليها عام 1958 بعد انتهاء حرب الأربعة ملايين ضحية هناك، يعود إليها محاولًا العثور على تلك الممرضة الصبية التي كان التقاها في زيارته الأولى ليقيم معها علاقة عابرة ملكت عليه حياته ولم تتمكن من مبارحة خياله حتى بات الآن ثمانينيًا رزينًا ، لن يلتقيها اليوم بالطبع ولن يصورها، لكنه سيعود من الرحلة بأكثر من ساعة ونصف الساعة من الصور الرائعة والطريفة التي تكتشف، ما وراء الصور الغائمة التي دائمًا ما أاتحفنا بها سواء في الإعلام الرسمي الكوري الشمالي، أو في الدعاية الغربية المشاكسة له، بلدًا وشعبًا رائعين.
وإن كانت صورة الشمال آتية من خارجه، نحن أمام فيلم يكاد يقول ما يقوله فيلما المسابقة الكوريان الشماليان ، ثمة دائمًا ما هو مدهش في شبه الجزيرة الغارق في الأزمات.