بغداد ـ نجلاء الطائي
اشتهرت محلات باب السيف والشواكة والكريمات بـ"إطلالتها" على نهر دجلة التي امتهنت صيد الأسماك، أو نقل المواطنين إلى جهة النهر الأخرى، وهم (البلاّمة) أو (المعبرجيه) بالتعبير الشعبي الدارج، إضافة إلى عملهم بصنع الحبال وشباك صيد السمك ومستلزمات الصيد الأخرى، ومنتجات فخارية اخرى وما زال بعض محال بيع هذه المواد موجوداً في سوق الشواكة الشهير.
وما أن تنتهي من السوق وتعبر أزقة الشواكة، حتى تدخل محلة الكريمات الممتدة بين جسر الأحرار وبين السفارة البريطانية، جسر الأحرار كان يسمى بجسر (مود) نسبة للضابط البريطاني الذي قاد حملة احتلال بغداد، ثم أطلق عليه جسر الملك فيصل، عندما تولى فيصل الأول حكم العراق، ثلاث مناطق ما زالت بيوتاتها الآيلة، أغلبها للسقوط بشناشيلها القديمة وطراز عمارتها تحكي قصص وجع عراقي قديم امتد منذ تأسيسها قبل اكثر من قرن إلى الآن.
واختلفت التفسيرات عن معنى (الشواكة) لكن اغلبها يشير إلى أن هذه المنطقة اشتهرت ببيع الشوك وبقايا سيقان الأشجار، لاستخدامها في تنانير الخبز الطينية، لكنها أي الشواكة وهي وباب السيف والكريمات، سميت (موسكو الصغيرة)، ونعتقد أن السبب هو التوجه الوطني للغالبية من سكانها الفقراء، ممن نزحوا إليها مع التجار، ليقوموا بأعمال الخدمة وتفريغ الحنطة والشعير والخضروات وبقية المنتجات، التي تحملها السفن البسيطة (الدوب) كما انهم انتموا مبكراً إلى الحزب الشيوعي العراقي، ومن اوائل الشيوعيين الذين ولدوا ونشأوا في هذه المناطق الثلاث قاسم ناجي حمندي وسامي جليل ورشيد عباس الترف وغيرهم، كما كانت مأوى لعدد من الشيوعيين الهاربين من محافظاتهم من بطش الأنظمة المتعاقبة وكانت عيادة الدكتورة نزيهة الدليمي في الشواكة تستقبل فيها المرضى وتعالجهم بالمجان في الغالب، ويقال إنها سميت (موسكو الصغيرة) كونها كانت تضم اقوى التنظيمات الشيوعية.
لم يبق من سكان الشواكة أو باب السيف والكريمات إلا القليل القليل جداً، وربما ابرزهم عمو هاني الذي يتداول اسمه الجميع وبرغم تعب السنين فإن ذاكرته تحتفظ بذكريات عن بدايات الشواكة، وكيف كان مواطنوها مع سكنة باب السيف يستقبلون السفن القادمة من الجنوب المحملة بالحبوب، في حين أن حمولة السفن القادمة من سامراء والموصل الرقي والبطيخ.. عمو هاني اعتاد قضاء اغلب الوقت في مقهى صغير يطل على نهر دجلة، يستذكر معاناة الناس وهم يسحبون (الدوب) بالحبال وعلى ظهورهم.
اعتاد أن يناجي النهر في جلوسه وهو يتحدث عن ابرز العوائل التي سكنت المنطقة وغادرتها مثل عائلة محمود صبحي الدفتري الذي تزوج شقيقة المرحوم كامل الجادرجي مؤسس الحزب الوطني الديمقراطي وبيت الاوقاتي، ومنهم المرحوم الشهيد جلال الدين الاوقاتي قائد القوة الجوية إبان ثورة الرابع عشر من تموز وبيت الدرة ومنهم العقيد عبد الباقي كاظم أول مدير شرطة في العهد الجمهوري وبيت الشاوي وبيت الوادي وعائلة المولى، ومنهم العميد حميد المولى أحد ثوار الرابع عشر من تموز/يوليو 1958، واعتقل في 1963 ثم هاجر إلى السويد ومات في الغربة، وغيرهم من الشخصيات الوطنية والتقدمية.
وأنت تتجول في بقايا محلة باب السيف وانتهاءً بالكريمات، مروراً بالشواكة لابد أن يسترعي انتباهك منظر البيوت القديمة بشناشيلها وابوابها وجدرانها القديمة بعضها ما زال قائماً تسكنه عوائل بعضها سكنت المنطقة حديثاً، وبيوت أخرى سقطت وتهدمت لكنها ما زالت باقية تشكو ظلم الاهمال.
وفي نفس الوقت الذي تجد بيوتاً تراثية تعود إلى دائرة الآثار مثل بيت السويدي وغيره، في دول العالم التي تحترم تراثها، هنالك اهتمام بالمناطق القديمة وتحولها إلى مناطق جذب سياحي تستقطب السيّاح في حين أن مناطق بغداد التراثية تشكو الإهمال.
وانت تدخل السوق من باب السيف تجد محالاً لبيع الحبال وشباك الصيد (والتبلية) التي تستخدم لصعود النخل، في بداية السوق تجد محل غالب هادي الشمري، من أهالي باب السيف الأصليين الذي ورث هذه المهنة من اجداده عندما كانوا يعتمدون على حرفيتهم في صناعة الحبال من الياف النخيل بالاعتماد على ايديهم قبل أن تدخل المكائن في صناعة بعض هذه الأدوات، وقد اتخذ السيد غالب بيتاً قديماً تكاد شناشيله وجدرانه أن تتساقط كمحل لبيع بضاعته .. ويشتهر السوق أيضاً بالخضروات وبيع المنتجات الحيوانية وجبن العرب والقيمر، وهنالك روايات تشير الى انه كان في السابق يضم بحدود اربعين قصاباً من اشهرهم سلوم الذي اغتيل عام 1961 وعصفور.. كما لايفوتنا أن نذكر علوة السمك المشهورة.
واعتاد السيد عباس الجلوس في المقهى المقابلة لمنطقة باب السيف، ويفتخر انه ولد هو ووالده وجده في الشواكة التي تعد من مناطق بغداد القديمة جداً ومن القلائل الذين ما زالوا يسكنونها برغم ان الكثير الكثير من اهلها قد غادرها، واعتاد أن يتحدث عن معالم المنطقة وطيبة أهلها ويتألم عندما يتهمهم البعض بالابتعاد عن قيم الدين كون المنطقة كانت تضم ملهى ليلياً ومحالاً لبيع المشروبات ولقرب المنطقة من الاذاعة والتلفزيون، وتواجد مطربين في المقهى المقابل لمحلة الكريمات مثل حضيري ابو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم وصاحب شراد رحمهم الله. فهذه المناطق انجبت محامين وشعراء وادباء واطباء وضباطاً، ومن الذين تفتخر بهم الشواكة الملا عبود الكرخي الشاعر المعروف ،كما أن أصل الفنان حمودي الحارثي من باب السيف وليس من العيب أو المخجل أن يكون بعضهم يرتاد الملاهي أيضاً.
ويفتخر بأن بيت اوائل مختاري الشواكة محمد علي كاظم وكذلك بيت مختار باب السيف القديم احمد شكر كان المكان، الذي يلجأ اليه الناس لفض نزاعاتهم واستقبال الغرباء وضيافتهم، وإن اهلها بما فيهم النازحون اليها من الجنوب أو الفرات الأوسط أو غيرها كانوا مثال الكرم والالفة والطيبة وتتمثل فيهم القيم البغدادية الاصيلة. ويذكر البعض أن القصاب كان في السابق يجوب الأزقة لبيع اللحم كما هو حال بائعة اللبن، وكان ابن رجب يبيع (كروش) البقر في عربته ليشتري منه الناس من سكنة باب السيف والشواكة والكريمات بخمسين فلساً.
ومن الشخصيات المشهورة دعبول البلام الذي اشتهر بنكاته وقد مثل شخصيته الفنان المرحوم يوسف العاني في مسرحية (الشريعة)، وكتبت عنه الكاتبة امل بورتر ابنة الضابط البريطاني بورتر الذي جاء مع الاحتلال، وكان دعبول البلام صديقاً لرئيس الوزراء نوري سعيد وتوفي عام 1971.
وكان من أحفاد مختار محلة الشواكة محمد علي سباحين، لمسافات طويلة ورياضيين، فالمرحومان جعفر محمد صالح وصادق اشتهرا بالرياضة والسباحة، وكانت تجري سباقات السباحة من منطقة الراشدية وصولاً إلى جسر الملكة عاليه جسر الجمهورية في الباب الشرقي حالياً، أما الشقاوات فكانوا كما يحكي البعض عنهم يمتازون بالحمية والغيرة وحماية المنطقة، ومنهم المرحوم عباس شكر الذي قتله غيلة عبد الرحمن ابو عوف في 1963 لتصفية حساب قديم حيث كان عباس قد امسك عبد الرحمن وسلمه مع سلاحه إلى الشرطة عام 1961 كما اشيع وقتها وكذلك المرحوم سيد كاظم الحاج شهاب، وكان آخر الشقاوات ويعمل غواصاً وقد انقذ العديد من الغرق. وإذا كان هنالك ما تفتخر به محلة الكريمات، فهو الشاعرة لميعة عباس عمارة، التي ولدت عام 1929 وعاشت في المحلة مع عائلتها الصابئة المندائيين وعمها صائغ الفضة المشهور زهرون .
وبدأت الشاعرة كتابة الشعر وهي في سن مبكرة وكانت ترسل قصائدها إلى شاعر المهجر ايليا ابو ماضي وكان صديقاً لوالدها ونشرت مجلة السمير اللبنانية اول قصائدها وهي بعمر الرابعة عشر، ودرست في بغداد وتخرجت من دار المعلمين العالية وعاصرت من الشعراء بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصدرت لها عدة دواوين وكرمتها الحكومة اللبنانية إبان الحرب الأهلية بوسام الارز تقديراً لمكانتها الادبية، ولم تتسلم الوسام بسبب الحرب وكتبت (على اي صدر أحط الوسام ولبنان جرح بقلبي..).