مدينة القيروان

يُسمّي الفقهاء مدينة القيروان "رابعة الثلاث"، أي أنها تحتلّ المرتبة الرابعة بعد مكة والمدينـة المنورة والقدس الشريف، والقيروان هي أقـدم وأول مـدينة إسلامية اختارها القائد العربي "عقبة بن نافـع" لتكون قاعدة لنشر الإسلام في المغرب العربي.

وهناك عند مـداخلها يقوم مقـام عبدالله بن أبي زمعة البلوي، الصحابي الذي كان مـع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينـة. دفن في هذا المقام عام 34 هجرية، وأنشئت القيروان بعيـدًا عن العمـران ، فكانت بذلك آمنة من هجوم الأعداء، وبعد بناء المساجد والمساكـن شدّ الناس المطايا إلى القـيروان من كل بلد وعظم قدرهـا، وكان لها سور له أربعة عشر بابـًا. وكان سوقها متصـلًا في المسجد من جهـة القبلة، وممتدًا إلى باب باسم "باب الربيع".

وحول المدينة أقيمت أسوار عالية تطورت على مدى التـاريخ لتكون قلعـة حصينـة تصدّ عنها حجـارتها المرصـوصـة هجمات الغـزاة، ولم تسلم القـيروان وأسوارهـا من أطماع الألمان في الحرب العالميـة الثانية، إذ هدموا قسما منها لاستعمال، حجـر الطابوق لبناء مدرج للطائرات، ويعد مسجـد القيروان تحفـة معماريـة خالدة، ولكلّ حجر في هذا المسجـد حكـاية، الأعمدة عديـدة ومتنوعة تعود لمعابد رومانية وكنائس بيزنطية، المنبر الخشبي من الساج العراقي وهو الأقدم في العالم، كل وحـدة زخـرفية مختلفـة عن الأخرى، وهناك رخـام روماني، كل ذلك في صيغة معمارية تجعل منه أعرق وأهم المساجـد في المغرب العربي، والقيروان مدينة التاريخ والحضارة والفتح.. أشع منها نور الإسلام على الشمال الأفريقي.

وأكثر من سبب يجعل زيارة مدينة القيروان العريقة في المناسبات الدينية ممتعًا ومميزًا وساحرًا، فالقيروان وأهالي القيروان يحتفلون بالأعياد والمناسبات الإسلامية، ومنها شهر رمضان المبارك وأعياد الفطر والأضحى، احتفاءً خاصًا في مدينة تتغذى من التاريخ، وتحوي بين طياتها بعض آثار عظمة الحضارة العربية الإسلامية، وكبار رموزها.

وأول ما يلاحظه زائر المدينة في المناسبات الدينية مظاهر الزينة، التي تتخذ من سور المدينة لوحة يتمازج فيها بشكل رائع وجذاب الماضي والحاضر. وسرعان ما يكتشف الزائر أن أهالي القيروان أكثر حبًا للمدينة من كل زائريها، فهم سرعان ما ينطلقون في الحديث عن مدينتهم باعتزاز وفخر، يسردون عليك فصولًا عظيمة من تاريخ عاصمة الأغالبة كما يسمونها.

وتتميز مدينة القيروان التي هي أول عاصمة للإسلام في شمال أفريقيا، بأسواقها التي تشهد الحركية الكبيرة وتواضع الناس وأخلاقهم، وتعيش القيروان هذا الأيام أبهى حللها استعدادًا لشهر الصيام ويولي سكان المدينة لشهر رمضان المبارك اهتمامًا خاصًا، ومتى زرت القيروان أيامًا قبل حلول الشهر الفضيل، فإنك ستلمح حركة قد لا تجدها خارجها، فاحتفاء أهالي المدينة العريقة بشهر رمضان، له تحضيرات تسبق قدومه بأيّام، من بينها إعداد "العولة" وهي عمليّة تخزين المواد الغذائيّة التي يتم إعدادها بطريقة تقليدية من خلال تحضير مشتقات الحبوب التي يتم طبخها في شهر رمضان والتوابل، كما يتمّ تحضير الأواني النحاسية التي تحرص العائلات القيروانية على أن تكون جزءًا من جهاز العروس، علاوة على الزينة التي تُجمّل المساكن والمساجد والمعالم الدينية مثل من يستعد لإقامة عرس.

ويُستقبل شهر رمضان، استقبال الضيوف كما جرت عليه عادة أهل المدينة استئناسًا بمزيج من العادات العثمانية والفاطمية والبربرية؛ فمدفع رمضان الذي يعود للعهد العثماني، لا يزال يحافظ على مكانه في أعلى برج سور القيروان الذي يسمى "بريجة" والذي أعيد بناؤه في العهد الحسيني، وهو عبارة عن حشو من البارود يطلق في الهواء فيعلن صوته لأهل المدينة عن بدء الإفطار وحلول الإمساك، ويأذن وميضه للقاطنين في محيط المدينة بتلك المواعيد، ويوحّد المدفع المواقيت ويؤنس لحظات الإفطار، ولتلك الغايات احتج بعض أهالي القيروان ضد قرار منع المدفع في ولايات الجمهورية، وقد استثنيت القيروان من قرار المنع، جريًا على تلك العادات، وأول ما يطالع المرء وهو يقبل على القيروان مآذن مساجدها العديدة، التي تطل عليها من جميع الأطراف. وفيها أول بيت ذكر فيه اسم الله في أفريقية، فكانت قلعة للعلم والإيمان، وتخرج منها أعلام وفقهاء وأدباء وشعراء، بلغ إشعاعهم أقاصي الدنيا، عبر ما نشروه من علوم وفقه وأدب.

وتستمد المدينة عراقتها أيضًا من تاريخها، الذي شهد الكثير من الفتوحات، فمن القيروان قاد طارق بن زياد جيوشه لفتح إسبانيا، ومن القيروان انتشر الإسلام والحضارة الإسلامية في أكثر مناطق أفريقيا.

أما جامع القيروان الكبير أشهر معالم المدينة فقد شيد عام 670 على يد الفاتح عقبة بن نافع، جاعلًا من القيروان عاصمة أفريقيا العربية الإسلامية، ومدينة للعلم والفقه والأدب، واكتسب هذا الجامع شهرته كمنارة علم وثقافة، استطاعت أن تستقطب عديد العلماء والمفكرين، الذين جعلوا منها جامعة، بلغ إشعاعها أقصى العالم الإسلامي. وأصبحت إلى جانب جامع الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والأزهر في مصر، أحد أهم المنارات في بلاد الإسلام.

وتخضع تصاميم المسجد إلى مخطط دقيق، يمثل فيه الرقم 8 القاعدة الأساسية لعملية إعداد القاعة، بينما تدلت من الجناح الرئيسي تشكيلات من الثريات من البلور الصافي والكريستال، تنير المعبر المؤدي إلى المحراب، الذي زين بـ162 قطعة خزف مربعة ذات رسوم وأشكال هندسية، وبجانب المحراب يوجد منبر، وهو قطعة فريدة من نوعها، صنعت كليًا من خشب السنديان، المجلوب من بلاد ما بين النهرين.

وتتميز القيروان بأنها مدينة فنون وصناعة تقليدية، حذقها السكان جيدًا، وحافظوا على طابعها المميز، بما فيه من طرافة وأصالة. وأول غرائب هذه المدينة "السجاد القيرواني"، الذي وصلت شهرته أرجاء العالم. وهو إلى جانب السجاد الإيراني يعتبر من أجود أنواع السجاد وأكثرها التصاقًا بالفن والنقش الإسلامي، وتنتشر محلات "السجاد" في مختلف أرجاء القيروان، حيث يقبل التجار والمواطنون من جهات عدة على سجاجيدها المرصعة بكل الألوان، ومما اشتهرت به المدينة أيضًا نوع من الحلويات، لا يفهم سرّ نكهته وحلاوته المميزة إلا أهالي القيروان، هذا النوع من الحلويات هو "المقروض"، ويكثر تداوله في شهر رمضان المبارك، وليس لأي زائر للمدينة أن يصرف نظرًا عن المقروض، وإلا بقي في نفسه شيء من حرمان، كما تشتهر القيروان بالأضرحة، التي كانت في زمن ما مدارس وكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم والفقه والتفسير، وهي ملحقة في إحدى الجمعيات الدينية، وتضم ضريح أحد الأولياء الصالحين، وقد شيدت هذه المدارس التي كانت سببًا في انتشار العلم بمختلف فروعه على نمط المدرسة المعمارية القيروانية، موزعة في المدينة كحبات جوهر براقة، لتضفي عليها رونقًا خاصًا، يعكس صورة المدينة العربية العتيقة، التي تفوح بالأصالة.

وأشهر هذه الأضرحة، ضريح سيدي الصحبي، وهو أحد صحابة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، قدم من شبه الجزيرة العربية ليستقر في القيروان، وكان سيدي الصحبي يحتفظ عنده بكثير من العناية والحرص بثلاث شعرات من لحية الرسول عليه السلام، مما يفسر تسميته بحلاق الرسول. ويحتفظ الناس لسيدي الصحبي بتقدير خاص، ويقولون إن الله كرّم المدينة بأن جعل فيها مقام "سيدي الصحبي"، كما كرم مدينة قابس بمقام أبو لبابة الأنصاري، وكرم تونس بكثير من الأولياء والصالحين والعلماء الذين عاشوا فيها علماء ومجاهدين ومتصوفة.

وتعتبر القَيْروان مرتفعة عن سطح البحر بنحو 60 مترًا، والقيروان كلمة فارسية الأصل وتعني مكان السلاح ومحط الجيش أو استراحة القافلة وموضع اجتماع الناس في الحرب، تقع القيروان في منطقة سباسب وسط تونس، وقد أصبحت القيروان عاصمة الأغالبة، فازدهر العلم والحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واستحدثوا معاهد علم أشهرها بيت الحكمة، وكذلك المرصد الفلكي الذي بناه المأمون، وشيدوا أعظم معالمها التي تعد مفخرة القيروان، من ذلك الفسقية الأغلبية وهي حوض كبير له 48 ضلعًا ويبلغ قطره 128م، وبئر بروطة "وهي ناعورة مائية، يديرها جمل موقوف على البئر، وهو معصوب العينين"، القيروان مدينة تضم كثيرًا من الآثار منها رقادة (مدينة الأغالبة الثانية)، التي أصبحت قرية أثرية. استُغل أحد قصورها ليكون معهدًا للدراسات والبحوث الإسلامية، فضلاً عن قيامه بأعمال توثيق المخطوطات التي نُقلت إليه من جامع عقبة بن نافع.

وتضم مدينة القيروان القديمة خمسين مسجدًا منها الجامع الكبير الذي شيده عقبة بن نافع، وهو أقدم جامع أنشئ هناك، ومن هنا اشتهر بسيد الجوامع المغربية، ويتميز بمنارته التي اتخذت شكلاً هندسيًا خالف الطراز الشرقي التقليدي فأصبحت نموذجًا احتذت به الجوامع في المغرب والأندلس فيما بعد. وقد وُسّع الجامع عدة مرات، وزين بأعمدة رخامية جلبت من أطلال قرطاجنة، ولاتزال منارة هذا الجامع الضخمة التي تلفت انتباه القادمين من الشمال شاهدًا على عظمة القيروان ودورها الإسلامي.