لاهاي - اليمن اليوم
يقصد معظم السياح مدينة لاهاي بطريقة غير مباشرة، مرورًا بها من وإلى أمستردام، أو كولون الألمانية، أو بروكسل البلجيكية، والمدن الثلاث لا تبعد عنها إلا قليلًا، أيًا كان الحال، فإن لاهاي ترحب بزوارها متيقنة أنهم سريعًا ما يتعرفون إليها، مدينة آية في الجمال الطبيعي والهدوء، مع نكهة ملوكية، وتعتبر لاهاي العاصمة الهولندية التجارية والإدارية والسياسية، حيث يقيم الملك ومبنى البرلمان والوزارات الحكومية ومقار البعثات الدبلوماسية وكبرى الشركات والمؤسسات القانونية الدولية، وتنقسم لاهاي التي يسميها أهلها "دان هاق"، ومعناها "غابة الكونت"، إلى 8 دوائر وأحياء، من أفقرها حي Schilderswijk الذي تحمل شوارعه أسماء أعظم فناني هولندا، أمثال رامبرانت وفان جوخ وفيرمير، وتسكنه جاليات مهاجرة ويشتهر بسوق مفتوح Haagse Markt duvq، يعرض بضائع تجد رواجًا يجذب حتى سكان المدن المجاورة، ولكم أن تتخيلوا الأحياء الراقية في لاهاي، حيث تقبع المنازل بعمارة جديدة كناطحات سحاب كل على حدة، تزينها أشجار باسقة، ونباتات مزهرة، بذوق ارستقراطي فخم، توفر نزهة لمن يستمتع بفنون تشييد المساكن والجولات الخضراء، بدورها، وتوفر القصور الملكية والمباني التاريخية القديمة فرصًا للمتعة، ولا سيما أن حدائقها مفتوحة للجمهور، وحتى القصر الملكي Nooreinde، سبق أن فتح أبوابه صيفًا ببطاقات دخول لم تزد عن 6 يورو، في حين ترددت أنباء عن تضييق لأسباب أمنية، خصوصًا أن القصر يعتبر المكتب الرسمي للملك منذ تنصيبه 2013، ولا تختلف جغرافية لاهاي عن بقية المدن الهولندية ذات الأراضي المنخفضة، وتلك خاصية تكسب البلاد مظهرًا يجذب الأنظار ويشدها منذ أول وهلة لأرضها المنبسطة، وهي بيضاء شتاءً وخضراء صيفًا، وتتلون ربيعًا بكل أنواع الزهور، خصوصًا "التوليب" بأنواعها التي تتعدى الـ100، وتحمل أكثر من 3700 اسم مسجل، وتتميز لاهاي بغابات تشقها مياه القنوات، وما يزيد من جمالها، وفي ساعات الليل تتألق بأضوائها المتعاكسة لتكسب المدينة مزيدًا من الروعة، تلامس أطرافها شاطئًا رمليًا طويلًا ونظيفًا يحده بحر الشمال، مواجهًا لساحة تنشط في مختلف الفعاليات "وفق المواسم" يصطف قبالتها عدد من المطاعم والمقاهي والفنادق والمعارض.
لاهاي هي ثالث أكبر المدن الهولندية بعد أمستردام وروتردام، إلا أنها تبدو صغيرة لا ازدحام فيها على الإطلاق، يستمتع السائح بأي بقعة من بقاعها، سواءً سيرًا على الأقدام، أو باستخدام وسائل المواصلات من السيارة، أو الترام، أو الباص "الحافلة" أو المراكب، كما يستطيع السائح استخدام القطار للتنقل في بقية مدنها، وبالطبع تزخر بالدراجات الهوائية؛ إذ تحترم كبقية المدن الهولندية أصحاب الدراجات ولهم الأولوية، وبما أنها مدينة ملكية فبإمكان السائح أن يتجول بمركبة مذهبة تجرها خيول ويسوقها سائس متمرس ملم بتاريخ معالمها وأساطيرها وحكايا ملوكها.
ويؤيد أهل المدينة أسرتهم المالكة ويقدرون الجهود التي تبذلها الملكة الشابة ماكسيما زوجة الملك فيلهام الاكسندر في تحديثها، التي رافقتها مع أول ظهورها في عالمهم كأرجنتينية يعشقها الأمير وريث العرش، احتجاجات وتساؤلات حول والدها الذي عمل وزيرًا للزراعة، إبان حكم الجنرال أوغيستو بيونشيه والإعدامات التي ارتكبها، وظل السؤال حائرًا إن كان الأب قد شارك في تلك الإعدامات أو علم بها، بعد لجان تحرٍ بأمر من رئيس الوزراء الهولندي ثبُت علم الوالد بالإعدامات من دون مشاركته، مما ساعد في إتمام الزواج من دون دعوة الأب، ومع بلوغ زوجة الأمير الثلاثين من العمر، مُنحت الجنسية الهولندية، فأمست بالتدريج موضع إعجاب الهولنديين ممن يتحمسون لأدوارها الحالية سندًا ودعمًا لملكهم ولوريثته ابنتهما كاثرين وأختيها، ويتابع أهل المدينة وسياحها المناسبات الملكية، ومن أهمها يوم 9 سبتمبر /أيلول، عندما يتجه الملك من قصره إلى البرلمان وسط المدينة، في موكب مهيب لإلقاء خطاب العرش الذي يعده سلفًا رئيس الوزراء ويوضح سياسة الحكومة، ويحتفلون في 27 أبريل /نيسان، بعيد ميلاد الملك، كما يحتفلون بعيد ميلاد الملكة السابقة، الأم، وهكذا لا ينقطع سير مناسبات أسرتهم الملكية التي تبدو أسرة غير متواضعة ومترابطة ومحافظة، تمدهم بمصدر أمان واستقرار وتساهم في جذب سياحي هائل، بعيدًا عن المزارات السياحية التقليدية، تشتهر لاهاي على وجه الخصوص بمقار قانونية دولية ذائعة الصيت أهمها: "قصر السلام" الذي يضم أكثر من جهاز قضائي، كمحكمة العدل الدولية الزراع القانوني لمنظمة الأمم المتحدة، ويضم القصر محكمة التحكيم الدائمة، وأكاديمية لاهاي للقانون الدولي ومكتبة ضخمة، ويتميز قصر السلام بجمال معماري فائق، وحدائق شاسعة مرسومة بكل دقة، وبعناية فائقة، ومكنونات فخمة. شيد القصر ما بين الأعوام 1907 – 1913، لاستضافة محكمة التحكيم الدائمة التي نشأت بعد مؤتمر لاهاي للسلام 1899، بتمويل من متبرع أميركي ثم لحقته تبرعات عينية من دول عدة، كتبرع إيطاليا بالرخام، وبلجيكا بأبواب، وسجاد حائط من اليابان، وسجاد فارسي من إيران، ونافورة من الدنمارك، وبرج ساعة من سويسرا، وقدمت النمسا ثريات كريستالية وإندونيسيا وأميركا خشبًا.
ويوفر قصر السلام المشيد على طراز عصر النهضة الحديث بواسطة معماري فرنسي إمكانية جولات سياحية مدفوعة الثمن لزيارته، وتستضيف لاهاي مقر المحكمة الجنائية الدولية التي ظهرت للوجود 2002، بهدف ألا ينفذ مجرم من عقاب ولمحاكمة من تلاحقهم اتهامات بجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، والقصد أن تُكمل المحكمة ما لم تكمله أو لم تقدر على القيام به محاكم وطنية، غالبًا لعدم استقلال النظام القضائي وضعفه في دول تقبض على أنفاسها أنظمة حكم باطش، ولا تجتذب هذه المحاكم وغيرها من محاكم خاصة تعقد في لاهاي الأنظار فحسب، بل وحتى مراكزها ومواقعها لحجز المتهمين والمدانين وأشهرها سجن شفينغين "Scheveningen" الذي يصفه البعض تهكمًا بأنه فندق 5 نجوم؛ وذلك لما يتمتع به نزلاؤه من معاملة مرفهة، حتى ولو كانوا بدموية نزيل السجن الأشهر، تشارلس تيلور الرئيس الليبيري السابق الذي أدانته محكمة خاصة بجرائم أثناء الحرب الأهلية التي نشبت في سيراليون 1991 - 2002، وقدر عدد من ماتوا خلالها بما يصل إلى 300 ألف، وهاجر وتشرد ما يقرب من 2 مليون، ناهيك عن أكثر من 20 ألف بُترت أطرافهم.
ويطبق السجن الذي أمسى على الرغم من جدرانه المغلقة بمثابة معلم سياحي: "حقوق الإنسان"، ومما يستمتع به نزلاؤه زنازين وفق مقاييس قانونية، وفسح هواء طلق، وتمارين رياضية، وفرص تعليم خصوصية حتى للقاءات حميمية، ووجبات متنوعة، بل يمكنهم الطبخ والتسوق من "كنتين" ملحق، ووفق ما نشر، فإن تيلور الذي وصل هذا السجن عام 2006، وغادره 2013، لقضاء سنوات عقوبته الـ50 بسجن بريطاني، كان قد طالب بطعام أفريقي بدلًا عن الأوروبي الذي لا يستسيغه.
إلى ذلك، تستضيف لاهاي منظمة حظر الأسلحة الكيماوية ومنظمة الشرطة الأوروبية ومقر شركات كبرى كشركة "شل"، ومقار إقليمية كمقر شركة "أرامكو السعودية" على سبيل المثال، يضفي هذا التواجد المتنوع والمتخصص، على لاهاي زخمًا يضاعف من قدراتها كمدينة أوروبية غربية ثرية تفهم معنى السياحة ومتطلباتها وتستثمرها بموجب بنيتها التحتية المتينة، أمنها ونظافتها ونظامها، طبيعتها الخلابة، وتاريخها العتيق، وعمرانها المميز، ونظام حكمها وتقاليدها، ووفرة حدائقها العامة ووسائل الترفيه فيها، إضافة إلى منتجات مميزة باتت تشكل علامات مميزة كالتوليب، ومنتجات أبقارها، وللأجبان على سبيل المثال متاجر كاملة وشاملة خاصة بها، كما تتنوع فنادقها ومتاحفها وملاهيها وشواطئها ومكتباتها وأسواقها المفتوحة والمسقوفة، ومنها De Passage الذي يضم متاجر هولندية وأخرى عالمية، وبالطبع لطهاتها إبداعاتهم ومطابخهم، ولن نغفل عن متاحفها وفنانيها ومعارضهم.
وتجيد لاهاي فن التسويق والدعاية، وأشهر دليل على ذلك، إعلان لمتحف موريتسهاوس بلوحة "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي"، للفنان يوهانس فيرمير 1632 – 1675، وفي هذا السياق تنتشر في المدينة براويز خشبية مزينة بوشاح أزرق ينسدل طويلًا كوشاح الفتاة الذي رسمه فيرمير، ولقليل من الإثارة، بدلًا عن مجرد التقاط سيلفي مع اللوحة التي لا تزال تثير الكثير من القراءات لنظرة الغموض التي تعتري وجه الفتاة، فما على السائح إلا وضع وجهه داخل الإطار الذي جُوف ومن ثم التقاط صورة لنفسه.