"بريد القراء" هو باب التفاعل الوحيد بين الصحف

 يُعد "بريد القراء" هو باب التفاعل الوحيد بين الصحف، منذ بداياتها،وبين القراء، قبل أكثر من قرنين من الزمان ومن خلال هذا الباب كان القراء يعبرون عن آرائهم فيما ينشر من أخبار وتعليقات, وبين الاستحسان والاعتراض كان الصحافيون يعرفون موقف القراء من الصحيفة، ويتفاعلون معهم بنشر الرسائل وأحيانًا بالرد عليها.

وتطور الوضع الآن إلى رسائل إلكترونية ترسل إلى مواقع الصحف الإلكترونية للتعقيب على المقالات والأخبار مباشرة، بالإضافة إلى البريد العادي، و النشر المستقل على وسائط التواصل الاجتماعي مع تعليقات مباشرة لا تخضع لإشراف الصحف، وتكون في بعضها ركيكة اللغة، ولا تلتزم بشروط النشر المحترف.

وكان المحتوى العام لـ"بريد القراء" متنوع، ويشمل التعليق على أخبار سياسية أو اجتماعية، أو الاعتراض على وجهات نظر كتاب الصحيفة أو تشجيعها، وأحيانًا تكون بغرض وضع الأمور في نصابها الصحيح من وجهة نظر القارئ، أو تصحيح ما يراه قد جانب الصواب من كتابات الصحافيين. ويكون الدافع إلى الاعتراض أقوى من الاستحسان في "بريد القراء". يكون هدف بعض القراء تصحيح ما يرونه من أخطاء في النشر وفق تقرير نشرته صحيفة لشرق الأوسط.

وتنشر الصحف تعليقات القراء، وفق أسلوب نشرها للمقالات. وتلجأ الصحف الكبرى إلى نشر نبذة مختصرة لبعض من "بريد القراء" الذي يصلها بأعداد هائلة. بينما تلجأ الصحف الصغرى والمحلية لنشر نسبة أكبر من البريد الذي يصلها بأعداد قليلة.

ويشرف محرر متخصص على "بريد القراء"، بحيث يخضع لمعايير النشر من حيث سلامة اللغة والالتزام بالأصول الصحافية بعدم التعدي أو اتهام أشخاص بلا دليل، أو تناول قضايا من جانب واحد يغفل حقوق الطرف الآخر. وفي الغالب يختصر المحرر رسائل البريد طويلة الحجم، بحيث لا تزيد عن ما بين 200 و500 كلمة بحد أقصى. ويغفل المحرر المسؤول الرسائل التي تأتي بلا توقيع أو تحتوي على لغة بذيئة لا تصلح للنشر.

و يذكر أن "بريد القراء" لا يقتصر على الصحف وحدها، بل يرسل أيضًا إلى محطات التلفزيون والراديو، كما يرسل لمواقع الصحف الإلكترونية. ويتم بث هذه الرسائل في برامج خاصة تبث دوريًا.

تاريخ حافل
يعود تاريخ "بريد القراء" إلى نشأة الصحف نفسها، وبدأت كفكرة متضمنة في صحف بدائية بدأت تنتشر في الغرب منذ منتصف القرن الثامن عشر. وخلال القرن التاسع عشر كان المتعارف عليه أن "بريد القراء" يأتي تعقيبًا على "عمود رأي" الصحيفة في قضايا محلية أو وطنية وفق خريطة توزيعها. ومنذ ذلك التاريخ، وخلال القرن العشرين، كان المتعارف عليه أن ينشر "بريد القراء" بجوار "عمود الرأي" في الصحيفة.

 وكان من المقبول في الماضي إرسال رسائل بلا توقيع، على اعتبار أنها من أسس حرية الرأي. ولكن رؤساء تحرير الصحف اعتبروا هذا التوجه سلبيًا في سبعينات القرن الماضي. ومع نهاية القرن العشرين كانت الأغلبية الساحقة من الرسائل مجهولة المصدر لا تأخذ طريقها إلى النشر. ولكن من الممكن أن يطلب القارئ عدم نشر اسمه مع الرسالة مع الإفصاح عن الاسم والعنوان للمحرر.

ووجد هواة إرسال البريد مجهول المصدر ضالتهم في منصات الحوار الإلكتروني التي يدخلونها بأسماء مستعارة، وينشرون من خلالها آراءهم التي يمكن اعتبار بعضها دون مستوى النشر المعتاد. وهي تماثل في مجموعها "بريد القراء" الذي كان ينشر في الصحف التاريخية من قرون سابقة.

وجاء بمفهوم القرن الحادي والعشرين، فإن معظم التفاعل بين وسائل الإعلام، وبين القراء أو المستمعين أو المشاهدين، يكون عبر الإنترنت. وتتلقى وسائل الإعلام تعليقات القراء عبر البريد الإلكتروني أو تطبيقات مثل "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستغرام". ولأن النشر الإلكتروني عبر الإنترنت فتح مجال القراءة لملايين القراء، بالإضافة إلى من يشترون النسخ الورقية، فإن التعليقات زادت في حجمها عن قدرة بعض الصحف على قراءة كل التعليقات أو نشرها، كما أن بعض المواقع الإلكترونية انهارت تحت ضغط الإقبال عليها.

و يعتبر "بريد القراء" في صورته الحديثة وسيلة تفاعلية فورية بين الإعلام وجمهوره، ولكن مع بعض الظواهر السلبية التي تتمثل في محاولات تأثير وهمية عبر كتابة أعداد هائلة من الرسائل التي تصب في موضوع واحد، وإرسالها على أنها من قراء متعددين، وهي حملات يرصدها الصحافيون المشرفون على "بريد القراء" بسهولة، ويتعاملون معها بحسم.

واشتهر رونالد كلارك رئيس تحرير صحيفة "سان بول بيونير برس" تاريخياً بالقول: إن "بريد القراء" هو بارومتر التفاعل بين الصحيفة وجمهورها، وكلما زاد البريد كلما كانت الصحيفة ناجحة في التفاعل مع جمهورها، أما إذا تراجع حجم البريد فهذا يعني أن الصحيفة خاملة، ولا تثير قراءها.

ورصدت محاولات لاستغلال "بريد القراء" لمصالح ذاتية، منها حالة السياسي الكندي بول رايتسما الذي كان يرسل العديد من رسائل "بريد القراء" إلى الصحف الكندية بأسماء مستعارة لكيل المديح إلى شخصه ومهاجمة معارضيه. وعندما كشفت صحيفة محلية أمره نشرت في صدر صفحتها الأولى عنوان "رايتسما كاذب، ولدينا الإثبات". وكان هذا بمثابة نهاية رايتسما سياسياً.

وتلجأ بعض الصحف والمجلات إلى تشجيع "بريد القراء" باختيار أفضل الرسائل ونشرها في موقع بارز، و تخصيص بعض الجوائز لأفضل الرسائل، منها تقديم أقلام فاخرة للقراء.

نماذج غريبة
تشتهر بعض النماذج الغريبة من "بريد القراء"، سواء على الجانب العربي أو الأجنبي. وفي مصر اشتهر محمد حسين حجازي المعروف باسم "مجنون أم كلثوم" بمراسلة الصحف المصرية على مدى ما يقرب من نصف قرن خلال حياة أم كلثوم وبعدها، لتصحيح أي معلومات منشورة عنها أو عن أغانيها. ثم استهواه أمر إرسال الرسائل التي تنشر باسمه فانتقل باهتمامه إلى القضايا العامة.

و نشرت صحيفة "دايلي ميل" رسالة من قارئ كتب فيها: أنه يشاهد مباريات "الكريكت" بين فريق بلاده والفريق الهندي، ولاحظ أن الجمهور الهندي الكبير الذي يشاهد هذه المباريات يرتدي الملابس المزركشة وتتحلى النساء بالحلي الذهبية. ثم يسأل في نهاية رسالته لماذا ترسل بريطانيا مساعدات إلى الهند وهي بلد ثري. وطالب بوقف المساعدات فورًا.

واشتكى قارئ آخر اسمه بن كورماك من قرية في الساحل الجنوبي البريطاني ,لصحيفة "التايمز" من مزارع الرياح التي تتكون من مراوح هائلة في الحجم. ويقول بن في رسالته: "لدينا ما يكفي من الرياح ولا نحتاج إلى تبديد المزيد من الكهرباء لتوليد المزيد من الرياح، فهذا تبديد لأموال دافعي الضرائب".

توجهات حديثة
السؤال الذي يشغل بال أكثر من رئيس تحرير هو: هل هناك أهمية للمحافظة على ركن "بريد القراء"؟ فالطبعات الإلكترونية تتيح فرصة التعليق من القراء على كل المقالات والأخبار مباشرة، بحيث يمكن القول: إن البريد تسلل إلى كل أبواب الصحيفة ولم يعد يقتصر على ركن خاص به.

وهناك حالات لقراء تحولوا إلى صحافيين، مع تكرار الكتابة إلى الصحف عبر أبواب "بريد القراء". كما تدعو بعض الصحف الآن قراءها لإرسال الأخبار والتحقيقات إليها من أجل الاستفادة من معلوماتهم الخاصة بقضايا معينة أو مناطق محلية يعرفونها جيداً.

و تجمع بعض الصحف, رسائل القراء الساخرة التي لم تنشر، وتصدر بها كتابًا دوريًا ,من رسائل قراء "التلغراف" من يقترح فض مظاهرات الطلبة باستخدام مدافع المياه، على أن تخلط خزانات المياه ببعض الصابون، لتنظيف الطلبة وتشجيعهم على الاستحمام.

من التعليق والاحتجاج إلى مشاكل القلوب
و اكتشفت بعض الصحف المصرية أن القراء يقبلون على قراءة "بريد القراء"، فخصصت صفحات كاملة للرسائل التي تبحث عن حلول لمشاكل شخصية، معظمها من النوع العاطفي. وتعددت أسماء هذه الصفحات من "بريد الجمعة" إلى "أريد حلاً" و"قلوب جريحة".

وتعد من أشهر هذه الأبواب ما كانت صحيفة "الأهرام" القاهرية تنشره أسبوعيًا تحت عنوان "بريد الجمعة". واشتهر هذا الباب عندما تولاه الصحافي عبد الوهاب مطاوع بين عام 1982 وحتى رحيله عام 2004. ولكن شعبية الصفحة تراجعت من بعده، نظراً لاختفاء أسلوب مطاوع في الرد الراقي على الرسائل التي كان يختارها للنشر من بين مئات الرسائل التي كان يتلقاها.

و تميزت مجلة "سيدتي" بأبواب "بريد القراء"، والإجابة على تساؤلات حائرة من القارئات كانت تجيب عليها الكاتبة الراحلة فوزية سلامة. وتحتاج مثل هذه الأبواب إلى اكتساب ثقة القراء والتواصل بمصداقية عبر سنوات طويلة من العطاء والنصيحة.

"الشرق الأوسط" فتحت قلبها للقراء من البداية
و فتحت صحيفة"الشرق الأوسط" صفحة للقراء للتعبير عن الآراء والخلجات ليس فقط في التعليق على موضوعات أو افتتاحيات الصحيفة، وإنما عن كل ما يروق لهم الكتابة عنه. واختارت الصحيفة يوميًا رسالة بها وجهة نظر جديدة لكي تكون "رسالة اليوم". كما خصصت ركناً للردود السريعة.

وأتاحت "الشرق الأوسط" فرصة للقراء لنشر أشعار من تأليفهم، والكتابة في مواضيع مختلفة تتراوح بين شرح ما هو "الحب الأول"، وتعليق على "ضعاف النفوس". وشملت الموضوعات الاحتفال بشهر رمضان المبارك وتعقيبات على الثورة الفلسطينية وضرورة القيام بمسيرة فلسطينية.

و لم يعد "بريد القراء" يقتصر على ركن أو صفحة واحدة، وإنما تتاح الفرصة للقراء للتعليق على كافة محتويات الصحيفة مباشرة على موقعها الإلكتروني. وتشمل فرصة التعليق على مقالات الرأي، وليس فقط على المقالات المنشورة. مع خدمات إضافية للحصول على محتويات من الصحيفة أو كتابات الرأي مباشرة على "إيميل" القارئ.

وتعد "الشرق الأوسط" هي الصحيفة التي تمثل الرأي العام العربي، وينتشر قراؤها حول العالم، ويتفاعلون معها سواءً بشراء الطبعة الورقية، أو المتابعة على الإنترنت.