الإعلام الروسي

مضى أكثر من ربع قرن على محاولة الانقلاب التي شهدها الاتحاد السوفياتي في 19 أغسطس /آب 1991، وأدت في النهاية إلى تفكك الدولة السوفياتية، يمكن القول إن تلك المرحلة ورغم كل ما شهدته من آلام، كانت بمثابة "عصر ذهبي" فريد من نوعه للإعلام الروسي. هذه الحقبة حررته من "حضن الكرملين".

وتمكّن بعد عقود من الكبت من تنشق الحرية، ومن ثم التمرد على مركز القرار السياسي. وبات يُمثل فعليًا "السلطة الرابعة". ولعب دورًا رئيسيًا في تطورات تلك المرحلة، من خلال امتلاكه قدرة تأثير فعلية على الرأي العام، عبر مقالات رأي وتقارير صحافية، لم يسبق أن نُشر نظير لها في الصحافة السوفياتية.

كانت ذروة العصر الذهبي للإعلام الروسي في نهاية أغسطس/آب 1991، حين تمرد على قرار "لجنة الطوارئ" التي قادت حينها محاولة الانقلاب على غورباتشوف، إلا أن الصحافة الروسية بدأت تشق دربها نحو الحرية الإعلامية المطلقة، قبل تلك الأحداث، وقبل تفكك الاتحاد السوفياتي، حين دأبت على مواكبة الحدث السياسي، منذ العام 1989، بأسلوب عبّرت فيه عن ذاتها، من دون التزام بالأطر التي كانت تفرضها السلطات السوفياتية.

برز دور الإعلام الروسي بشكل واضح في المرحلة إبان الأحداث التي سبقت محاولة الانقلاب التي شهدها الاتحاد السوفياتي، وخلالها وبعد فشلها.

و يمكن القول إن أسلوب الخطاب الإعلامي في الصحف الروسية في السنوات الأخيرة من الحقبة السوفياتية، بدأ يتغير جوهريًا منذ إعلان غورباتشوف نهج "البيريسترويكا"، وإطلاق الحريات تدريجيًا. وعندما بدأ الحديث يدور عن إعادة صياغة الاتفاقية الاتحادية بين الدول الأعضاء في الاتحاد السوفياتي، دخل الإعلامي الروسي على المشهد من موقع "اللاعب المستقل" الذي لم يذهب، كما كان يفعل سابقًا، إلى تمجيد خطة "الزعيم" غورباتشوف الخاصة بتوقيع اتفاقية اتحادية جديدة، وإنما تعامل مع الطرح بمهنية، حين قامت بعض الصحف بنشر تفاصيل نص الاتفاقية التي يدور الحديث عنها، بينما ذهبت صحف أخرى إلى الحديث عن احتمال انتهاء حقبة غورباتشوف بسبب ضعف سياسته الداخلية.

وكانت سنوات قبل الانقلاب شهدت اضطرابات واحتجاجات في عدد من عواصم الجمهوريات التي كانت حينها جزءً من الدولة السوفياتية، منها المواجهات في العاصمة الليتوانية فيلنوس في منتصف يناير /كانون الثاني 1991، أي بعد أقل من عام على إعلان ليتوانيا انفصالها عن الاتحاد السوفياتي، وهو ما رفضته السلطات المركزية في موسكو

وقامت القوات السوفياتية بالسيطرة على المراكز الإعلامية في المدينة، الأمر الذي رأت فيه صحف روسية محاولة لإعادة تحكم الرقابة السياسية على الإعلام. وصدرت صحيفة "نيزافيسمايا غازيتا" في عددها يوم 22 يناير بصفحة رئيسية نصف فارغة، تحت عنوان واحد "هكذا ستبدو الصحف السوفياتية إذا عادت الرقابة السياسية".

ونشرت "نيزافيسمايا غازيتا" مقالًا جريئًا بعنوان "بدائل غورباتشوف"، كتبه فيتالي تريتياكوف، رئيس تحرير الصحيفة حينها، وقال فيه إن فشل غورباتشوف في التعامل مع الاحتجاجات في العاصمة الجورجية تبليسي في أبريل /نيسان 1989، والاحتجاجات في العاصمة الأذربيجانية باكو في يناير/كانون الثاني 1990، وفي العاصمة الليتوانية فيلنوس في يناير 1991، التي سقط فيها ضحايا من المدنيين، خلال المواجهات مع القوات السوفياتية، "هذه هي المحاور الرئيسية التي قادت غورباتشوف نحو أزمته الحالية". وتوقع تريتياكوف، ,بصراحة تغييرًا في السلطة, وفي الفقرة التالية عرض أسماء شخصيات مرشحة لتحل بديلًا عن غورباتشوف، بينهم بوريس يلتسين، الذي أصبح فيما بعد أول رئيس لروسيا، وقادة مثل غيناي ينايف، نائب أمين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي تلا في 19 أغسطس/آب 1991 بيان "لجنة حالة الطوارئ"، أي مجموعة الانقلابيين.

ويُعد مع تصاعد حدة التوتر السياسي في أوساط النخب السياسية الحاكمة، بين مؤيد ومعارض لفكرة توقيع اتفاقية اتحادية جديدة، عبرت مجموعة من الشخصيات السياسية والعسكرية والثقافة الروسية، عن رفضها نهج غورباتشوف، وقاموا بإعداد مقال صحافي بعنوان "كلمة إلى الشعب" نشرته صحيفة "سوفياتساكايا روسيا" في عددها يوم 23 يوليو /تموز، دعوا فيها المواطنين إلى العمل على "بناء بيت واحد للجميع، تعيش فيه الشعوب الصغيرة والكبيرة بصداقة وسعادة"، وأشاروا بشكل غير مباشر إلى أنه هناك بدائل متوفرة عن غورباتشوف، حين أكدوا "يوجد بين الروس رجال دولة مستعدون لقيادة البلاد نحو مستقبل سيادي لا ذل فيه". وبعد يومين فقط من نشر "كلمة إلى الشعب" طلب قادة المؤسسات الأمنية والعسكرية (مدير "كي جي بي"، ووزير الدفاع، ووزير الداخلية، وغيرهم) من غورباتشوف التنحي عن السلطة.

الصحافة تنفض على محاولة الانقلاب

و طلبت مجموعة من كبار القادة السوفيات، بينهم نائب الرئيس ووزير الدفاع ووزير الداخلية ومدير "كي جي بي"، تشكيل "لجنة حالة الطوارئ" لإدارة شؤون البلاد وخروجها من الأزمة. وكانت تلك محاولة انقلاب على الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، الذي احتجزه الانقلابيون في مقر استجمامه الصيفي، وزعموا أنه مريض يتلقى العلاج هناك، دون أن يسمحوا بأي تواصل معه. وقامت صحيفة "إزفستيا" في اليوم التالي بنشر نص بيان لجنة الطوارئ كاملًا، وتقول مراجع تاريخية إن إدارة تحرير الصحيفة كانت مضطرة حينها لنشر نص الإعلان، نتيجة ضغط من السلطات. وكانت لجنة الطوارئ فرضت حظرًا على عمل وسائل الإعلام الروسية، إلا أن معظم الصحف صدرت، بعناوين عكست موقفها ضد الانقلابيين، ودعمها بوريس يلتسين، الذي قاد حملة واسعة ضد السلطات السوفياتية، من موقعه رئيسا لروسيا السوفياتية حينها. صحيفة "كومسمولسكايا برافدا" فردت حينها معظم صفحاتها لتغطية "الانقلاب" وركزت على تعميم القرارات الصادرة عن يلتسين، بما في ذلك تعيينه قيادات عسكرية جديدة، على رأس الجيوش في مختلف أنحاء البلاد، وقيادات إدارية، بديلة عن القيادات المؤيدة للانقلاب.

نتيجة قرار حظر وسائل الإعلام اضطر الكتاب والصحافيون في صحيفة "نيزافيسمايا غازيتا" لإرسال مقالاتهم إلى دول أخرى لطباعة الصحيفة، وتقول مصادر وثقت تلك المرحلة إن مؤسسة فرنسية قامت بطباعة آلاف النسخ باللغة الفرنسية من عدد الصحيفة الروسية. كما تمردت معظم الصحف على قرار الحظر، وصدرت يومها صحيفة "موسكوفسكي نوفوستي" بعنوان رئيسي على صفحتها الأولى "أغلقونا لكننا صدرنا"، وكذلك صحيفة "ترود" وصحف أخرى. وشهدت موسكو منذ 19 حتى 22 أغسطس احتجاجات واسعة، حيث خرج الآلاف نحو البيت الأبيض ومقار حكومية أخرى كانت تحاصرها دبابات الجيش السوفياتي، وعبروا عن دعهم لموقف الرئيس يلتسين، الذي كان قد اتخذ جملة خطوات جعلته عمليا يمسك بزمام القيادة في البلاد، وتمكن من تحرير غورباتشوف وإعادته إلى موسكو.
, أعلنت الصحف الروسية ومنها "نيزافسيمايا" في عددها يوم 22، عن فشل الانقلاب، وقالت على صفحتها الرئيسية بـ"الخط العريض": "الدبابات غادرت موسكو. إلغاء حالة الطوارئ. الانقلاب فشل والشعب حافظ على السلطات الشرعية. من بين جميع الشخصيات القيادية الكبرى كان بوريس يلتسين الوحيد الذي وقف علنا بوجه المتآمرين"، وكان لافتا أن قالت الصحيفة حينها إن "دور غورباتشوف فيما جرى غير واضح بعد" ووضعت علامة استفهام أمام العبارة التي أشارت فيها إلى أنه كان محتجزا في مقر إقامته وفق تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط.

وتسارعت الأحداث بعد فشل محاولة الانقلاب عام 1991 ، وبرزت جلية للعلن الخلافات الحادة بين يلتسين وغورباتشوف،  بخاصة صراعهما على السلطة، حيث بدا واضحا أن يلتسين سعى إلى أن يكون البديل عن غورباتشوف. في غضون ذلك تنامت المزاجية الانفصالية في الجمهوريات السوفياتية. وبحلول ديسمبر /كانون الأول من عام 1991، كانت معظم الجمهوريات السوفياتية، بما في ذلك روسيا، قد أعلنت عمليا استقلالها بصورة أحادية عن الدولة السوفياتية. وفي 25 ديسمبر /كانون الأول أعلن غورباتشوف استقالته رئيسا للاتحاد السوفياتي، عبر خطاب متلفز، وفي اليوم التالي أصدر المجلس الأعلى لجمهوريات الاتحاد السوفياتي بيانا اعترف فيه باستقلال الجمهوريات، وتفكك الدولة السوفياتية. ومنذ ذلك التاريخ دخل الإعلام الروسي مرحلة جديدة من العمل، تميزت بحريات غير محدودة، أتاحت طرح مختلف وجهات النظر، وتوجيه انتقادات للسلطات دون أي رقيب. وظهرت إمبراطوريات إعلامية، حافظت على هامش من حرية العمل الصحافي، إلا أن أصحاب النفوذ الذين أسسوا تلك الإمبراطوريات، تحكموا بها وعمدوا إلى توجيه خطها الإعلامي، لخدمة مصالحهم. وفي السنوات الأخيرة، في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، تم القضاء عمليا على تلك الإمبراطوريات، وعادت معظم وسائل الإعلام الروسية إلى "حضن الكرملين" مجدداً.