"جيران المرجين" مدن وقرى تتنفس نفايات الزيتون

 تحقيق استقصائي منيرة الرابعي - وسط الروائح الكريهة الخانقة ولسعات البعوض المنتشر بكثافة في محيط مصب المرجين بمنطقة "فدّان السوق" الواقعة بمعتمدية "تبرسق" من ولاية "باجة" بالشمال الغربي للبلاد التونسية، خرجت "زينوبة الجويني" تلتقط أنفساها بصعوبة تشكو ما فعل بها ضيف ثقيل الظّل دخل حياتها دون استئذان منذ نحو سبع سنوات. هذا الضيف حول حياتها إلى جحيم لا يطاق منذ إنشاء ستة من أصحاب معاصر الزيتون في المنطقة مصباً جماعياً للمرجين بجوار منزلها، وما نتج عنها من تصريف ملوث لهذه المادة.

"أبنائي الأربعة هجروا المكان، لكن ضيق الحال أجبرني على البقاء أعاني الأمرين من هذا "الجار غير المرغوب فيه".. بهذه العبارات وصفت زينوبة ذات الـ 58 عاماً معاناتها مع "مصب المرجين" الذي ما زال يجثم على بعد نحو 50 متراً من منزلها. 

وتضيف: "أصبحت أعاني من مرض الحساسية، وأشكو احمراراً دائماً في العينين جراء الهواء الملوث بالروائح الكريهة المنبعثة من المرجين. كما أن محتويات المنزل امتزجت بالرائحة. لقد ضقت بها ذرعاً، وهي تصبح فوق طاقة التحمّل خاصة خلال فصل الصيف، مما يجبرني على غلق النوافذ، وتحمل شدّة الحرّ على تلك الرائحة ولسعات البعوض". وتضيف قائله: "ورغم تواتر زياراتي للطبيب لم أجد علاجا مناسباً، حيث كان ينصحني في كل مرة بالابتعاد عن مصب المرجين كحل وحيد لحماية صحتي".

"زينوبة" تقدمت بخمسة شكاوى، منذ إنشاء المصب سنة 2010، إلى ولاية "باجة" ومعتمدية "تبرسق" التي أبلغتها برفض طلبها معللة ذلك إلى أنها تقطن في الأراضي الدولية (أراضي كانت على ملك المعمّرين وتمّ تأميمها) وما عليها سوى القبول بالوضع أو ترك المنزل الذي ولدت فيه وورثته أباً عن جدّ بمقتضى شهادة حوز، وأنفقت جميع مدخراتها من أجل إعادة ترميمه بعد أن كان آيلاً للسّقوط".

معاناة "زينوبة" وعائلتها مع مصب المرجين، تختزل قصة مائتي عائلة تقطن قرية "فدّان السّوق" الهادئة الواقعة على بعد 100 كلم شمال غربي تونس العاصمة، وتمتاز بإنتاج الزيتون. فالقرية أصابها ما يصيب الوجه من "تشوّهات"، حيث يجثو في المدخل المؤدي إليها مصب المرجين المكوّن من خمسة أحواض.

يكشف هذا التحقيق الاستقصائي، أن ضعف رقابة هياكل الدولة (وزارة البيئة والوكالة الوطنية لحماية المحيط) على مصبات المرجين العشوائية الخاصة، والتي يحدثها ملّاك هذه المعاصر في مختلف أنحاء البلاد، أدى لقيامهم بالتخلص من هذه المادة بشكل مخالف لمواصفات التصرف السليم في نفايات المرجين، وبشكل يتعارض مع الأطر القانونية المعمول بها في تونس، الأمر الذي يتسبب بمعاناة مدن وقرى تجاور هذه المصبات تستنشق يومياً مادة المرجين.

أهالي فدّان السّوق: صوتنا في بئر عميق لا يسمع صداه المسؤولون

"زينوبة" كغيرها من أهالي "فدّان السّوق" الذين التقتهم معدّة التحقيق، يؤكدون أن مصب المرجين جعلهم يعيشون في "صناديق مغلقة" حيث يصعب فتح النوافذ والأبواب خاصّة عند ارتفاع درجات الحرارة، خلال فصلي الربيع والصيف، بسبب الروائح الكريهة وانتشار البعوض والحشرات بكثرة. كما شددوا على التأثير السلبي للمرجين على خصوبة الأراضي الزراعية المحيطة بالمصب.

ويوضح مدير مدرسة "عين بن شبل" بـ "فدّان السّوق" "منير الجويني"، في ذات السياق أن المصب الذي لا يبعد سوى مسافة 200 متر عن المدرسة - فيها 150 تلميذاً- ومسافة 300 متر عن الحي السكني، في مخالفة لشرط وكالة حماية المحيط في الابتعاد أكثر ما يمكن عن المناطق السكنية /وقد قدرت ب 2 كلم/ ، تنبعث منه على مدار السنة روائح كريهة تتسبب في إزعاج الإطار التربوي وعدم قدرته على التركيز أثناء ساعات التدريس، كما تعيق عملية التنفس لدى المربين والتلاميذ خاصة خلال حصص التربية البدنية.

ويؤكد أن المصب "عشوائي ولم يخضع إلى أي عملية متابعة أو مراقبة منذ إحداثه"، معتبراً أن السلطات الجهوية اختارت "أيسر الحلول للتخلص من المرجين من خلال حفر خمسة أحواض تمتد على مساحة 3 هكتارات حولتها إلى مصب اقتطعته من أخصب الأراضي بالمنطقة".

وأفاد مدير المدرسة، أنه قام برفع ثلاث شكايات عن طريق المندوبية الجهوية للتربية من أجل التدخل لإغلاقه أو إبعاده عن المدرسة، لكنها ظلت دون صدى منذ عام 2013.

وفي المقابل يؤكد عمدة القرية "محمد الجويني" أن هذا المصب "مراقب من قبل اللّجنة الفنية الجهوية لمصبات المرجين بولاية باجة ومطابق للمواصفات المعمول بها"

وأوضح أنه "لا يوجد حلّ بديل لإنشاء مصب في منطقة أخرى من معتمدية "تبرسق" لسببين اثنين، أولهما أن الأرض التي يوجد فيها المصب الحالي، هي ملك للدولة، وثانيهما طبيعتها الطينية التي تمنع تسرّب المرجين إلى المياه السطحية، مؤكداً أنه "قد سبق إنشاء مصبين عشوائيين آخرين بالجهة تسببا في تسرّب المرجين إلى المياه السطحية بمدينة "تبرسق"، وكان الأول قرب البحيرة الجبليّة المحاذية لمقطع الحجارة والثانية بمنطقة "فجّ الرّيح" قرب غابات "عين جمّالة"، مما أدّى إلى تغيّر طعم المياه فتم إغلاقها سنة 2009".

وعلى عكس ما ذهب إليه العمدة، فنّد المدير الجهوي للوكالة الوطنية للتحكم في المحيط بالشمال الغربي رضا النفزي ذلك، موضحاً أن هذا المصب غير مرخص له، ولم يتحصل على شهادة في "عدم الاعتراض على إحداث المصب" (وهي وثيقة أساسية تسندها الوكالة لأصحاب المعاصر الراغبين في إحداث مصبات وذلك بعد انجازهم لدراسة المؤثرات على المحيط ليتم في مرحلة موالية المصادقة على إحداث المصب من قبل اللجنة الفنية الجهوية لمصبات المرجين في كل ولاية).

وأشار إلى أن إحداث هذا المصب، من قبل معتمدية "تبرسق"، جاء كحل مؤقت لأصحاب المعاصر الموجودين بالجهة وعددهم عشرة، للحد من الإلقاء العشوائي للمرجين في الأودية ومجاري المياه.

قصة "زينوبة" و"فدّان السّوق" مع المرجين ومصباته العشوائية تتكرر في مختلف المناطق المنتجة للزيتون في الجمهورية. ففي جولة ميدانية لمعدة التحقيق في معتمدية " بني حسان" من ولاية "المنستير" بالوسط الشرقي للبلاد على بعد 187 كلم من تونس العاصمة، تعاني جمعية "البرق الرياضي" ببني حسّان منذ سنة 2006 من تواجد مصب للمرجين على بعد 100 متر فقط من الملعب البلدي والذي تنبعث منه وعلى مدار السنة، روائح كريهة.

ووفق رئيس الجمعية "فراس الكبير"، فإن الروائح المتأتية من مصب المرجين، كانت وراء عزوف عديد الشبان عن الانخراط في الجمعية، وتراجع نحو 12 ألف ساكن عن تشجيع فريقهم.

ويتكون هذا المصب من 13 حوضاً تمتد على مساحة 5.3 هكتار، أحدثه مالكه (وهو صاحب معصرة بمدينة المكنين المجاورة لبني حسان والواقعة على مسافة 12.5 كم منها) دون الحصول على موافقة اللجنة الجهوية لمصبات المرجين بالمنستير، وتسبب في جرف التربة وتعرية جذور الأشجار وفي أضرار لأشجار الزياتين المجاورة للمصب، حسب رئيس الجمعية البيئية والتنموية ببني حسّان "رمضان كشاط".

وبعد أكثر من 20 شكاية إلى السلط الجهوية، ووقفات احتجاجية نفذها مواطنون ناشطون في المجتمع المدني، أصدر والي المنستير قراراً خلال عام 2014 يقضي بردم هذا المصب العشوائي وشفط المرجين.

ورغم تأكيد معتمد المنطقة عبد المجيد غرسلي، أنه لم يتم استغلال المصب خلال موسم 2015 إلا أنه لم يتم، إلى تاريخ كتابة هذا التحقيق، ردمه، في انتظار اتمام عملية رفع المرجين الجاف من قبل صاحب المصب وفي انتظار تبخر بقية الأحواض حتى يتم ردمها.

اختلال التوازن بين الطاقات الإنتاجية والقدرات على استيعاب كميات المرجين

باجة، كما المنستير، من أهم المناطق المنتجة للزيتون في الجمهورية التونسية التي تقدر بها مساحة الأراضي المغروسة زيتوناً بـ 1.76 مليون هكتار، وتضم 74 مليون شجرة زيتون، وتنتج 792 ألف طناً من الزيتون سنوياً، كمعدل وسطي للخمس سنوات بين 2009/2014، وفق إدارة الإنتاج الفلاحي بوزارة الفلاحة.

وعلى ضخامة كميات المرجين المنتجة سنوياً والتي تتراوح بين 800 و1300 طن من المرجين تختلف حسب طريقة العصر، تنتجها ما بين 1700 و1850 معصرة زيتون، موزعة بين 13% في شمال البلاد و50% في الوسط والسّاحل و37% في الجنوب، فإن 125 مصباً فقط موزعة على كامل تراب تونس، تستقبل تلك الكميات بطاقة استيعاب إجمالية تصل إلى 1.3 مليون متر مكعب، 40 بالمائة منها بمنطقة الجنوب

وتنقسم هذه المصبات إلى ثلاث أصناف؛مصبات جماعية مبنية في أراضي دولية ويتصرف فيها الخواص، ومصبات جماعية مبنية فوق أراضي خاصة، ويتصرف فيها الخواص، ومصبات فردية (يتصرف فيها مالك معصرة واحد على أرضه الخاصة).

وفي الوقت الذي تعد نسبة 33% من هذه المصبات عشوائية خارج إطار التصنيف وتشكل خطراً على المحيط (38 مصباً)، وتفتقر نسبة 51 % منها إلى إجراءات السلامة على غرار التسييج والحراسة (59 مصباً)، فإن 15 بالمائة فقط من المصبات تحترم هذه المواصفات (19 مصباً)، وفق دراسة أنجزتها وزارة البيئة لإعداد "مخطط وطني للتصرف في المرجين"، امتدت على 3 مراحل بين سنوات 2007 و2013 وشملت 116 مصباً موزعين على كامل تراب الجمهورية.

وخلصت الدراسة إلى أن 53 بالمائة من جملة هذه المصبات (116 مصباً)، تنتصب فوق طبقات جيوليوجية ذات قابلية مرتفعة جداً لنفاذ المرجين وتسربه إلى المياه الجوفية، مما يشكل مصدراً لتلوث المياه الجوفية، في حين توجد 47% من المصبات فوق طبقات جيولوجية ضعيفة أو متوسطة النفاذ لمادة المرجين إلى المياه الجوفية.

كما خلصت الدراسة إلى أن 38 مصباً عشوائيا، تستوجب الغلق بسبب عدم استجابتها للمواصفات وتهديدها للبيئة / لم يتم إلى حد الآن سوى غلق المصب العشوائي بني حسان بسبب تمسك الأهالي والقرار الذي اتخذه والي الجهة المخول قانونا باتخاذ قرار الغلق/.

وأكدت الدراسة على أن عملية غلق كل مصب يجب أن ترافقها أشغال إعادة تأهيل (استصلاح الأرض) للقضاء على التلوث الذي سببه المصب. وتشمل هذه الأشغال تفكيك المعدات من المصب، وإزالة طبقة المرجين الجافة بعد تبخرها وإزالة الطبقة العليا من الأتربة التي توجد تحت طبقة المرجين بسمك 40 صم على الأقل وردم المصب بالطين المضغوط بسمك 20 صم ليتم في أخر مرحلة استصلاح الأحواض عبر وضع طبقة نهائية من التربة بسمك 40 صم يتم فوقها غراسة النباتات بهدف إعادة الموقع إلى طبيعته وإعادة إحياءه. وتبلغ التكلفة الإجمالية لغلق هذه المصبات بحسب الدراسة نحو مليون و104 آلف دينار تونسي (حوالي 450 ألف دولار).

المرجين يتضمن مواد كيميائية سامة

ويحتوي المرجين بحسب ذات الدراسة على نسب تتراوح بين 7 و15 % من المواد العضوية، وبين 1 و2 % من الأملاح المعدنية على غرار الكربونات والفسفاط والبوتاسيوم والصوديوم. وأثبت التحليل الكيميائي لعينات من المرجين، قام بها مخبر التحاليل بمركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة، احتواء المواد العضوية للمرجين على مواد ملوثة عديدة أخطرها مركبات "الفينول" الذي يمثل نحو 20% من المواد العضوية الموجودة في المرجين.

ويوضح الأستاذ الباحث في الجيولوجيا والخبير الدولي لدى المحاكم في الجيولوجيا والبيئة "محمد الصغير قايد"، أن مادة "الفينول"، سامة تؤدي إلى عدة أمراض للجهاز التنفسي والجلد لدى الإنسان وتلوث الهواء والأرض والمائدة المائية"، وأكد أن أغلب المصبات في تونس، أنشئت دون دراسات فنية لكيفية التخلص من المرجين ودون مراعاة لمصلحة المواطنين أو البيئة.

كما ذهب الباحث بمخبر السّموميات والأرغونومية والمحيط المهني بكلية الطب بتونس ورئيس قسم طب الشّغل والأمراض المهنية بالمستشفى الجامعي بالرابطة الدكتور عبد المجيد بن جماعة، إلى أن "رائحة الفينول النفاذة تسبب القلق، وله تأثير سلبي جداً على البيئة، ويقضي على البكتيريات الصغيرة التي تغذي أديم الأرض، وبسببها تصبح الأرض عقيمة".

وفي تجربة عربية خارج تونس، خلصت دراسة علمية بعنوان "تأثير إلقاء المرجين على جودة المياه بنهر "الحصباني" بلبنان" للدكتور كمال سليم بكلية العلوم بجامعة لبنان، تم نشرها سنة 2013 بالمجلة العلمية "طبيعة وتكنولوجيا" المتخصصة في علوم الطبيعة بجامعة "حسيبة بن بوعلي الشلف" بالجزائر، أن المرجين يعد مصدر تلوث للمياه السطحية والجوفية.

كما أكدت أن "مادة "الفسفور" التي يحتويها المرجين، تساهم في توفر بيئة ملائمة لنمو الطحالب وتزيد في احتمال زيادة مغذياتها (eutrophisation) مما يتسبب في اختلال التوازن البيئي للمياه الطبيعية ويجعلها غير صالحة.

وأشارت الدراسة إلى أن السكريات الموجودة في المرجين، تزيد في الميكروبات التي تقوم باستهلاك كمية الأوكسجين الموجودة في المياه. وبالتالي تتسبب في حرمان بقية الكائنات الحية الأخرى، بالإضافة إلى أن الدهنيات التي يحتويها تمثل شريطاً يحجب مرور أشعة الشمس والأوكسجين إلى المياه.

استغلال المصبات العشوائية يتضارب مع الإطار القانوني في تونس

إن عدم استجابة نسبة 84 بالمائة من المصبات المستغلة (33% خارج التصنيف و51 بالمائة تفتقر لإجراءات السلامة)، لمواصفات التصرف السليم في نفايات المرجين، يتعارض مع الأطر القانونية المعمول بها في تونس في هذا المجال، وتحديدا مع الأمر عدد 56 لسنة 1985 المؤرخ في 2 جانفي 1985 الذي ينص على الشروط التي ينظم ويحجر بمقتضاها تصريف المياه في المحيط، حيث حجر تصريف الدهون والزيوت النباتية في المحيط، كما حجر عدم إتلافها في مجاري الأودية والبرك المائية أو تصريفها عبر قنوات الصرف الصحي، لما تسبّبه من تعطيل لسير محطات التطهير من خلال قتل البكتيريا الموجودة فيها، و اللازمة لتحليل المواد العضوية في قنوات التطهير.

كما يتعارض مع القانون عدد 41 المؤرخ في 10 جوان 1996 المتعلق بمراقبة النفايات وطرق التصرف فيها وإزالتها، الذي ينص على عدم التسبب في أي خطر على صحة الإنسان وعدم استعمال طرق أو أساليب يمكن أن تضر بالبيئة وخاصة الماء والهواء والتربة والأحياء الحيوانية والنباتية وعدم التسبب في إزعاج بالضجيج أو الروائح، ودون الإضرار بالمشاهد الطبيعية والعمرانية، بينما تكشف الجولة الميدانية لمعدة التحقيق أنّ مصب "فدّان السّوق" و"بني حسّان" على بعد أمتار من "زينوبة" ومدرسة "عين بن شبل" ومن الملعب الريّاضي ومن المنطقة السكنية بكلتا القريتين، مما يتسبب للسكان في أضرار متنوعة ممنوعة بنص القانون.

ويتعرض المخالف لمقتضيات القانون إلى عقوبات بحسب الفصل 46 من هذا القانون، تتمثل في عقوبة مالية يتراوح مقدارها من مائة دينار إلى خمسين ألف دينار، حسب خطورة الضرر، غير أنه يتم في العادة حل المسألة وديا بين الوكالة الوطنية لحماية المحيط وأصحاب المعصرة المستغلين للمصب، حسب بكار ترميز.

ويشترط في إحداث مصب المرجين بحسب الوكالة الوطنية لحماية المحيط الابتعاد أكثر ما يمكن عن المناطق السكنية العمرانية وعن المناطق الهشة كالسباخ والمحميات الطبيعية والمائدة المائية غير أنه لا يوجد قانون يحدد هذه المسافة، وأن يكون مسيجاً. كما يشترط في حوض المرجين، ألا يتجاوز عمقه 1.5 متراً على الأكثر حتى تسهل عملية تبخر المرجين، وأن يحتوي على طبقة عازلة من الطين أو أغشية غير نافذة، يصل سمكها إلى 50 سم، تمنع تسرب المرجين إلى المائدة السطحية للمياه.

وتتعدد على أرض الواقع، المخالفات والتجاوزات، حيث أن أغلب المصبات في تونس لا تستجيب لشروط السلامة ولا لقواعد الهندسة المعمارية، ولا تحترم عمق المصب والتسييج، ولا تحتوي على طبقة عازلة فضلاً عن تواجدها قرب المناطق السكنية، وفق لما خلصت إليها دراسة وزارة البيئة لإعداد المخطط الوطني للتصرف في المرجين، حيث أشارت إلى عدم احترام أصحاب المعاصر (وخاصة القديمة) لمعايير التصرف في المرجين، بالإضافة إلى النقائص المسجلة على المستوى اللوجيستي (عدم توفر العدد الكافي للمراقبين ووسائل النقل) التي من شأنها عرقلة مهمة مراقبي الوكالة الوطنية للتحكم في المحيط (المشرفة على مراقبة المصبات ورفع المخالفات وتحرير المحاضر ضد المخالفين ولها صفة الضابطة العدلية)، مما يفتح المجال أمام عدد من أصحاب المعاصر للتخلص من المرجين في الوسط الطبيعي.

وقد أحصت الوكالة الوطنية للتحكم في المحيط، 14 مخالفة سنة 2015 مقابل 71 مخالفة سنة 2010 أغلبها يتعلق بإلقاء المرجين عشوائياً في الوسط الطبيعي، خلال عمليات المراقبة التي يؤمنها 32 خبيراً مراقباً بالوكالة موزعين على مختلف الجهات، توكل لهم مهمة مراقبة أصحاب المعاصر والمصبات ومختلف مهمات الرقابة على التصرف في النفايات، حسب الطاهر عبد النبي، المسؤول بإدارة مراقبة الأنشطة الملوثة بوكالة التحكم في المحيط.

ويتم على إثر شكاوى المواطنين بشأن مصبات المرجين التي تتلقاها الوكالة الوطنية للمحيط، في مرحلة أولى القيام بزيارة ميدانية للمصب محل الشكوى ومعاينة الاختلالات ثم معالجة الإشكال حسب الطاهر عبد النبي، الذي أشار إلى أن الوكالة تلقت إلى حدود النصف الأول من سنة 2016 تسع شكاوى من مختلف مناطق الجمهورية، جميعها يتعلق بالروائح المنبعثة من مصبات المرجين ويتم حالياً متابعتها على مستوى الوكالة.

ووفقاً للخبير لدى المحاكم في قضايا البيئة "محمد الصغير قايد"، فإنه لا يوجد قضايا خاصة بمصبات المرجين لدى المحاكم التونسية، وأن الشكاوى التي يرفعها المواطنون يوجهونها إلى السلطة الجهوية أو إلى وزارة البيئة، ورغم المعاناة المستمرة وشكاوى زينوبة ومدير مدرسة عين بن شبل بفدان السوق وأهالي بني حسان التي لم تجد آذانا صاغية، إلا أن مدير إدارة تقييم الدراسات البيئية بوكالة التحكم في المحيط "بكار ترميز"، يرى أن هذه المصبات حلت إشكالاً كبيراً بالنسبة للتصرف في المرجين بعد أن كان يتم التخلص منه في ثمانينات القرن الماضي في الأودية والأراضي الفلاحية وقنوات التطهير مما أدى إلى تدميرها.

وأوضح أن "المبدأ الأساسي بالنسبة للدولة، هو إحداث أقل عدد ممكن من المصبات، على اعتبار أن كل مصب مهما كانت الاحتياطات المتخذة، يمثل "نقطة سوداء" بيئياً، لكن لا يوجد حالياً حل آخر بديل للمصبات، باستثناء تجربة التثمين المتمثلة في إمكانية استخدام المرجين في المجال الفلاحي، وفي صناعة مستحضرات التجميل، وفق ما أثبتته البحوث العلمية في عديد البلدان".

وأكد ترميز أن الدولة لا تبني المصبات بل توكل ذلك إلى صاحب المعصرة، باعتباره يتسبب في التلوث، ولبناء مصب يتوجب عليه في مرحلة أولى إنجاز "دراسة للمؤثرات على المحيط" لدى مكاتب دراسات أو خبراء مختصين، تسمح بتقدير وتقييم وقيس التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لإنجاز مصب المرجين على المحيط، ليعرضها في مرحلة ثانية على الوكالة الوطنية لحماية المحيط التي تسند شهادة في "عدم الاعتراض على إحداث المصب" ويحصل في مرحلة ثالثة على موافقة اللجنة الفنية الجهوية لمصبات المرجين الموجودة صلب كل ولاية.

ويشترط أن يتضمن محتوى "دراسة المؤثرات على المحيط" وصفاً مفصلاً لمصب المرجين وللمضاعفات المباشرة وغير المباشرة المنتظرة للمصب على المحيط، وبالخصوص على الموارد الطبيعية والحيوانات، فضلاً عن التدابير المزمع اتخاذها من قبل صاحب المصب، لإزالة تأثيرات المصب المضرة بالمحيط أو الحد منها، وإن أمكن تعويضها أو تقدير كلفتها.

وفي حالة عدم احترام صاحب المعصرة للإجراءات المذكورة في "دراسة المؤثرات على المحيط" يتم سحب الترخيص من قبل اللجنة الفنية الجهوية لمصبات المرجين، حسب بكار ترميز الذي أكد أنه سبق للوكالة، وأن سحبت في ثلاث مناسبات "شهادة عدم الاعتراض" من ثلاث مصابات تم بموجبها سحب الترخيص. وبين أن الولاة هم من يتخذون قرارات غلق المصبات المخالفة.

وتختلف التكلفة الإجمالية لإحداث مصب للمرجين حسب طاقة استيعابه ومساحته ومكانه تواجده (أسعار الأراضي بشمال أعلى من الجنوب) ويمكن أن تتراوح بين 240 ألف دينار (حوالي 120 ألف دولار) لمصب تبلغ طاقة استيعابه خمس آلاف متر مكعب من المرجين في السنة (مساحته 0,4 هكتار) إلى أربعة ملايين و987 ألف دينار (حوالي 2 مليون و493 ألف دولار) لمصب تبلغ طاقة استيعابه 120 ألف متر مربع من المرجين (أي على مساحة 9,6 هكتار).

الإدارة لاعلم لها

وفي إطار حق الرد، توجهت معدة التحقيق إلى مدير الوقاية من المخاطر بوزارة البيئة عبد الرزاق المرزوقي الذي نفى علمه بمصب فدان السوق الذي نغص حياة "زينوبة" وأهالي المنطقة، وقام بتسجيل مختلف الملاحظات التي رفعتها له، ووعد بمتابعة هذا الملف تحديداً على اعتبار أنّ مصب فدان السوق الذي أقر بطابعه -العشوائي- قرب مدرسة وحي سكني.

وأكد أن الرقابة على المخالفين موكولة للوكالة الوطنية لحماية المحيط التي تقوم برفع التقارير، غير أن إدارته لم تتلق أي إشعار في هذا الشأن، مشيراً في المقابل إلى وجود حلول علمية بديلة للتصرف في المرجين، تتمثل في تثمينه واستخدام بعض مكوناته، خاصة في إنتاج مستحضرات التجميل أو استعماله كسماد مخصب للتربة.

وقد أكدت البحوث العلمية التي أنجزتها مراكز البحث بكل من معهد الزيتونة ومركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة ومركز البيوتكنولوجيا بصفاقس، إمكانية استخدام المرجين في المجال الفلاحي لتسميد الأرض.

وفي هذا الإطار بين مدير التحويل والتجديد التكنولوجي بمركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة الفاضل المهيري، أن تجربة رش المرجين على الأراضي الفلاحية أثبتت جدواها في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، مضيفاً أن المركز قام بتجارب لتثمين المرجين، أفضت إلى إمكانية استعماله كسماد، وذلك حسب شروط علمية ومواصفات منظمة لذلك نص عليها الأمر عدد 1308 لسنة 2013.

ويحدد هذا الأمر شروط وطرق التصرف في المرجين المستخرج من معاصر الزيتون بغرض استخدامه في المجال الفلاحي وكميات المرجين التي يتم رشها سنوياً، ويحجر فرشه في الأراضي الواقعة على مسافة أقل من 200 متر عن المساكن والطرقات، وفي الأراضي التي تكون على مسافة أقل من 300 متر عن مجاري المياه المنحدرة والميسرة لسيلان المرجين خارج الأراضي المعدة للفرش، والأراضي التي يقل فيها عمق المائدة السطحية عن 10 أمتار.

وتتراوح كميات المرجين المسموح برشها داخل المزارع بين 50 و100 متر مكعب بالهكتار، حسب المتحدث الذي أكد أن اعتماد هذه الكميات لا يؤثر على حموضة التربة ولا على كمية المواد الفينولية أو على الملوحة

وعلى وعود مدير الوقاية من المخاطر البيئية، بالنظر في إشكالية مصب "فداّن السّوق" العشوائي، وأفاق تثمين المرجين، تظل زينوبة وغيرها من سكان "فدّان السّوق" و"بني حسّان" وبقية المناطق التي تشكو أضرار المصبات العشوائية، في انتظار لحظة فارقة تنقذهم من أجوار "ثقيلي الظّل"، لحظة تتعزز فيها الرقابة، وتضطلع فيها هياكل الدولة بمسؤولياتها للحد من التصرف العشوائي في المرجين خصوصا وأن موسم جني الزيتون على الأبواب.

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) وبإشراف الزميلين د. مارك هنتر وبهيجة بلمبروك.

(مؤطر 1): تعريف المرجين

يعرّف المرجين علمياً، بأنه السّائل الناتج عن عملية عصر الزيتون، يكون لونه بين البني والبني الأرجواني بعد عملية العصر مباشرة، ثم يتحول شيئا فشيئا إلى اللون الأسود إثر إلقائه في المصبات التي هي عبارة عن أحواض ترابية تخصصها المعاصر لسكب مادة المرجين فيها، وله تأثير على البيئة وعلى صحة الإنسان والاقتصاد معاً، إن لم تعالج أو يستفاد منها.

مؤطر :2 مواصفات مصبات المرجين حسب شروط وكالة حماية المحيط

الابتعاد أكثر ما يمكن عن المناطق السكنية العمرانية (مسافة 2 كيلومترا على الأقل) وعن المناطق الهشة كالسباخ والمحميات الطبيعية والمائدة المائية، ويحبذ أن تكون في مناطق فلاحية وأن يكون مسيجاً وبه بوابة للدخول إلى المصب ومقر للإدارة ومقر لحارس المصب وممرات العبور إلى أحواض المرجين وفضاء لتفريغ شاحنات المرجين وحوض مجهز بمنظومة لرسكلة المرجين ومنطقة لتوسعة المشروع في حال امتلاء جميع احواض المرجين.

كما يشترط في حوض المرجين، ألا يتجاوز عمقه 1.5 متراً على الأكثر حتى تسهل عملية تبخر المرجين، وأن يحتوي على طبقة عازلة من الطين أو أغشية غير نافذة، يصل سمكها إلى 50 سم، تمنع تسرب المرجين الى المائدة السطحية والجوفية للمياه.