عقدة مبتدا مندور
يرجى العلم أن كل السطور التالية هي من وحي أم خيال الكاتب، ولا تمت للواقع بصلة، لأن الواقع في حقيقة الأمر أسوأ.
ها هي لاحت تباشير الشتاء، وجاء أبي ليسألني، ماذا عساك أن تفعل غير الخناق مع أصدقائك كل يوم "كم من استدعاء لولي الأمر" يصلني يشكو منك ومن تصرفاتك الحمقاء، ماذا يضايقك أن يصفك زملاؤك بذات الشعر الناعم والعينين الخضراوين؟
كان صباح اليوم التالي أليما، بفضل ما احتسيت من خمر بعد أن تركت أبي الذي انهال عليّ بالضرب، وذهبت إلى ذلك الملهى المهجور في شبرا، صحيت من النوم، وكابوس غير منطقي سيطر على منامي وأفزعني وأنا أقول لإبي "وحياة أمي ما هسيبك".
خالتي بدورها، تلف أوراق المحشي مع أمي، أذهب إلى حمامي وهي تقاطعني "سرحي شعرك الأول يا بيضا، مش كنتي جيتي بت أحسن"، تجاهلتها وهي تزيد عقدتي، تمنيت أن يصبح شعري أبيض أو فضيا ككرم مطاوع حتى أظهر وقورا قويا، ولكن ماذا عن عيناي كيف أغير لونهما، هل أتمنى العمى، أم أكتفي بارتداء نظارة سوداء؟
تركت المنزل غاضبا كالعادة، أذهب إلى كليتي، مستعدا لمضايقات زملائي، ليس فقط بسبب شعري الناعم الحريري أو لون عيناي الملونتين، ولكن للتهكم على اسمي "مبتدا"، والدي المتيم باللغة العربية قرر أن يزيد بؤسي وشقائي باسم غريب، الاسم الذي جعلني "مرفوعا" دائما بين زملائي.
لم أزل أحس نفسي باردا كالعادة، رحت أحاول معالجة تلك العُقد التي تطاردني، قررت أن أقود ثورة في كليتي، الجميع سيفهم أني لست ذلك الشاب "الطري" الذي يقترن شكلي واسمي، نريدها حربا، والسادات لن يفعل، إذن فلنكن نحن درع وسيف هذا الوطن ضد الفساد.
"اعبُر اعبُر يا نوريك المُر" "اعبُر اعبُر يا نوريك المُر"، هذا الهتاف الذي رن جميع أنحاء كلية الحقوق، وكان بابا لزملائي أن يطلقوا عليّ لقب "المُر" حتى هذه اللحظة، ذاع سيطي في كل أنحاء الجمهورية، لا أصدق نفسي، أنا "المُر" أنا "المُر"!
عدت إلى المنزل، وخالتي تأكل وحدها هذا المحشي الذي كانت تلف أوراقه في الصباح، "انتي جيتي يا حلوة، يلا غيري هدومك وخشي اغسلي المواعين"، أدهشني ابتداء من هذه اللحظة صدمة حديثها، فلم تكن تعرف أني أصبحت "المُر"، ربما هو مجرد لقب زائف، أعرف ذلك لكنه يهون عليّ عقدة حياتي.
تخرجت أخيرا، أرى شعري وبدا يتغير لونه تدريجيا، أخيراً كرم مطاوع بدا يتقمصني، كتقمصه لأدواره السينمائية الشهيرة، اقتنيت نظارة ريبان بنية اللون غطت عيني، الآن أنا قاض الآن أنا شامخ.
كنت الوحيد الذي يعرف أن هذه الشخصية التي تبدو قوية وعنيفة وراءها هذا الطفل الذي كان يسخر منه الجميع سواء لشكله "الطري" أو لاسمه المرفوع، ولكني قررت أن أكون "أنا" كما أريد أن يراه الناس، ولأول مرة في حياتي كانت "أنا" تبدو منقسمة وكان اكتشاف هذا الازدواج يدهشني ويزعجني في كل مرة.
تركت ذلك كله، ولكن زادت عقدتي عندما قال لي رؤسائي إنني لست جديرا بكرسي القضاء الشامخ، لم ينفعني شعر كرم مطاوع أو نظارتي الريبان، تم فصلي بعد جلسة تأديبية من مجلس القضاء الأعلى.
وهنا ظهرت "أنا" أخرى تطعن في جميع حججي وتتهمني بأنني أخدع ذاتي، قضيت ساعات بأكملها في غرفتي، أجادل نفسي لأعرف أن ما في نفسي من خوف وعداء للجميع ما يبرره أني لم أكن إلا شابا مدللا على حظ من الحرية الذائفة!
قررت أن أكتب وأكتب، كنت ثاني أصغر مؤلف لكتب القانون، صحيح أنها لما تكن مثل مؤلفات السنهوري والهلباوي القانونية، ولكنها بالتأكيد ليست كما وصفها أساتذتي بأنها أشبه بمجالات ميكي وعلاء الدين.
ذاع سيطي كمحام قدير في المحاكم الجنائية والإدارية، الجميع كان يرى أني محامٍ كفء، والصحيح أنني كنت أفرض نفسي على قضايا الفنانين والراقصات ورجال تشغيل الأموال، هؤلاء كانوا المشاهير وقتها، والاقتراب منهم يجعلك كبير المحاميين، وأصبح انتشار اسم "مبتدا مندور" أهم ما أبحث عنه لا يهم إن كان انتشاره بالشكل السلبي أو الإيجابي.
وذات يوم، بينما كنت أغفو على سريري، بعد حمام الصباح، أفتح شاشتي الصغيرة أشاهد الجماهير تذهب بكثافة إلى المدرجات، الجميع يتحدث عن مباراة اليوم، لا يتحدث أحد عن قضيتي الكبيرة، ما هذا الشعب الذي تجاهل قضية الراقصة تفانين اللهلوبة ويركز في مهارات حسن شحاتة وفاروق جعفر!
كرة القدم ملعبي الآن ولكنني لن أستطيع مجاراة مهارات هؤلاء النجوم، لست إداريا ناجحا، مثلما لم أكن قاضيا أو محاميا بارعا، مضى يومان وأنا أدور في حلقة مفرغة، وأنهك نفسي ولكنني لم أكن أستطيع أن أتخلص من تلك الفكرة المتسلطة عليّ.
سأكون رئيسا لهذا النادي ذي الخطين الزرق، سأبدأ كعضو مجلس إدارة، أعرف أنني ليست لي شعبية كبيرة في النادي، ولكن في الحقيقة أنه لم يكن لي شعبية أيضا في كليتي قبل أن أهتف "اعبُر اعبُر يا نوريك المُر"، سأردد هتافات ضد الفساد داخل النادي، كل الناس تكره الفساد، لن يختلف عضو النادي عن طالب الجامعة، لا يهم وجود الفساد أو لا، المهم أن تزيد من الشعارات الرنانة.
صدق أعضاء النادي هتافاتي، ولم أصبح في تلك اللحظة "المُر"، أعضاء النادي باتوا يرون في شخصي "المُر بزيادة"، الرجل الذي يحارب الفساد "غير الموجود".
أصبحت قويا، كانت عشرات من الخطط والمشاريع تموج وتتشكل في رأسي، وكنت أحس أنني أستسلم لضغط حججي، سأمحي صورة "الشاب الطري"، خيل إليّ لحظة أنني قد تماديت كثيرا، ولكن لا يهم أنا الآن شخص قوي لديّ نفوذ وأشخاص أستطيع ابتزازهم، أستطيع أن أنتقم من خالتي التي عايرتني بشعري ورئيسي الذي أنزلني من على كرسي القضاء، وأساتذتي الذين اعتبروا كتاباتي كمجلات الأطفال
واستيقظت ذات يوم في خير حال، لا يؤلمني سوى توتر في عضلات عنقي وكانت الشمس تغطي فراشي، أسلمت ظهري العاري لأشعتها، مثلما قالت لي الساحرة الدجالة التي استمد منها سر قوتي، وجاءت زوجتي بالخبر السعيد بالظبط كما قالت الساحرة مساء اليوم السابق "سترزق بطفل بنعومة شعرك ولون عينيك، سيمر بنفس قصة حياتك، وسيكون فاشلا في كل ما يعمل مثلك، ولكن سيذيع صيته وقوته كما ذاع صيتك وقوتك بفضل سحري وقدراتي الخارقة".
أرسل تعليقك