آخر تحديث GMT 08:03:06
اليمن اليوم-

​​ ​ ​​​​إعادة اكتشاف الآخر

اليمن اليوم-

​​ ​ ​​​​إعادة اكتشاف الآخر

بقلم/ عبد الله عيسى .. وتجربته اللافتة

تكمن أهميةُ تجربة الشاعر عبد الله عيسى وجيله في أنها تمثل -أروعَ تمثيل- تلك الانتقالةَ بالغة الأهمية ​​في شعر المقاومة الفلسطينية بت ​​ راثه الشاسع الثقيل، ذلك التراث الذي أسهم فيه شعراء تاريخيون من مثل: توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم، بما يجعله أقرب لأن يكون تراثًا مستعصيًا على التجاوز.

ثمة حراك واضح في رؤية العالم يمكن رصده في أشعار عبد الله عيسى، وهو حراك فيه استجابة واضحة للتحولات التي اعترت هذا العالم ونظامه المعرفي، وفيه محاولة لإعادة صوغ الأسئلة بطريقة جديدة وصحيحة، أيضًا فيه جسارة مواجهة الحقائق المرة، بل والتحديق في عيونها الكئيبة.
ففي ديوانه (رعاة السماء .. رعاة الدفلى) يقول شاعرنا مخاطبًا أعداءه:
"يا أعداءنا!
لا تقتلوا أطفالنا حتى نحبَّ، كما نرى أطفالكم
لا تقتلوا أطفالنا
حتى نحب كما نرى أطفالكم
يدنو عويلُ الأمهات بخيبة الغدِ
من كلام اللهِ، يلعنُ
ربنا الجبار!
لا تمهلهم الزمنَ المؤجل كلَّه،
وأذقهم الكأسَ التي كادوا لنا"
انظروا معي كيف ينظر الشاعر لعدوه كإنسان كامل لا يقل عنه إنسانيةً، ولاحظوا كيف يخاطبه كأبٍ له أطفال كأطفاله، يستحقون الحب والحنان والحياة الكريمة، لا أثر هنا للكراهية العمياء التي تشيطن الآخر رغم اقترافاته المزرية، بل هناك الكراهية المبصرة القادرة على إقامة العدل، إنها الكراهية التي تنصبُّ على فكرة الشر ذاتها، ولا تتوقف عند المتورطين فيه.
ثم يأبى الشاعر أن ينهي قصيدته قبل أن يؤكد رؤيته تلك، فيجيء الختام كالآتي:
كي تبكي على أحدٍ
يُذكِّر بالذي قتلتَ من ضجرٍ
هناك.
هذه الطريقة في النظر إلى الآخر، تختلف اختلافًا بعيدًا عما ألفناه في شعر الأجيال الأسبق الذي كانت تشيع فيه ظاهرة نفي الآخر وإلغاء وجوده الإنساني، إما باعتباره قوى شر خفيةً غيرَ محددة المعالم، وإما بمسخه حيوانًا وضيعًا أو ما نحو ذلك، ولعلنا نتذكر قصيدةَ ( أسميك نرجِسة حول قلبي) لمحمود درويش، الذي كان يخاطب فيها سميح القاسم فيقول:
هنا أول الشعر والسخرية
هنا أول السلم الحجري المؤدي إلى الله
والسجن والكلمة
هنا نستطيع انتظار البرابرة المؤمنين بجحشٍ
توقف في أرضنا
قبل ميلاد عيسى عليه السلام
وأسس دولته بعد ألفي سنة.
أتحسب أن الزمانَ يضيّعُ حقَّ الحميرِ
بقتل العرب؟
على أن تلك الانتقالية الواضحة في الرؤية لدى عبد الله عيسى من ثنائية (الأنا في مواجهة الهو الغائب)، إلى ثنائيته الجديدة (الأنا في مواجهة الأنت الماثل المتعين)، لم تكن لتفرطَ في ذلك الثراء اللغوي الذي امتازت به تجربةُ الرواد، فثمة روح ملحمية عارمة تتلبس نصوصَ عبد الله كي تصِلَها بتراث آبائه، وثمة ولع بالتناص المُعمّق مع الميثولوجيا الدينية والكتب السماوية، وهي بلا ريب خصيصة فلسطينية، على اعتبار أن فلسطين أرضٌ تقاطعت فيها كل السردياتُ المقدسة.

يمكننا رصد انتقاله أخرى ذات طابع بنيوي في ذلك الديوان، وبالتحديد في قصيدته الملحمية (دم الأنبياء على معصمي)، إذ يعمد الشاعر إلى اصطناع تشكيل بصري غير مألوف في فراغ الصفحة، حين يقسمه رأسيًا كي يوزع نصه على هيئة مصفوفة تسمح بقراءة النص أفقيًا ورأسيًا، كما لو أن الشاعر يود الإيحاءَ لنا بأن للحقيقة الواحدة أوجه عدة، الأمر الذي يمكن اعتباره نقدًا مضمرًا للعقلية العربية التقليدية أحادية البعد، تلك التي أخفقت إلى حد بعيد في إدارة الصراع مع العدو.  

وقبل أن أنهي كلامي، لابد لي هنا، أن أذكر لتجربة عبد الله عيسى فضلًا إضافيًا كونها تذكرنا بأن الشعرَ فنٌ صعب، يحتاج إلى مدفعية ثقيلة من المعارف والخبرات، فضلًا عن القدرة على الإنصات إلى الوجود، إذ لا مجال فيه للاستسهال، وهو الأمر الذي شاع للأسف بين تجارب شباب الشعراء في الوقت الراهن.
 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

​​ ​ ​​​​إعادة اكتشاف الآخر ​​ ​ ​​​​إعادة اكتشاف الآخر



GMT 14:42 2021 الثلاثاء ,18 أيار / مايو

”أعطنى مسرحًا أُعطِكَ شعبًا مثقفًا”

GMT 14:13 2019 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

العمق الثقافي اللبناني

GMT 17:39 2019 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

تدريس مادة التربية الإسلامية والمسيحية بالأمازيغية

GMT 19:04 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

هذا ما أراده سلطان

GMT 22:15 2018 الإثنين ,23 تموز / يوليو

في نسف الثّقافة..

GMT 14:52 2018 الإثنين ,23 تموز / يوليو

الحُرّيّة

GMT 06:52 2018 الجمعة ,20 إبريل / نيسان

​عبدالرحمن الأبنودي شاعر الغلابة

إطلالة لافتة وجريئة لنسرين طافش في مهرجان كان السينمائي

القاهرة - اليمن اليوم

GMT 06:28 2024 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

الشيخة حسينة رئيسة وزراء بنغلاديش تفوز بولاية رابعة

GMT 01:35 2018 الخميس ,07 حزيران / يونيو

محمد بن زايد يطلق حزمة اقتصادية بـ 50 بليون درهم

GMT 03:07 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

منة فضالي تؤكد أن العمل مع الفنانة بوسي ممتع ويغمره البهجة

GMT 01:45 2016 الثلاثاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

غير الناطقين بالإنكليزية يتفوقون في برنامج التقييم الوطني

GMT 22:50 2018 السبت ,20 تشرين الأول / أكتوبر

مدير باريس للأساتذة يحث فيدرر على المشاركة في البطولة

GMT 21:49 2016 الأحد ,27 آذار/ مارس

أوملت البطاطا

GMT 21:58 2017 الجمعة ,02 حزيران / يونيو

غضب نسائي يطارد أحمد فهمي بسبب خيانة نيللي كريم

GMT 00:46 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

علي ربيع يكشف عن فيلم جديد يجمعه بنجم "مسرح مصر"

GMT 07:20 2018 الإثنين ,23 إبريل / نيسان

"الفراولة" أحدث موضة في قصات الشعر لعام 2018

GMT 03:20 2016 الأربعاء ,14 كانون الأول / ديسمبر

توست مقلي بالبيض

GMT 21:00 2018 السبت ,14 تموز / يوليو

8 جامعات إماراتية ضمن أفضل 40 جامعة عربية
 
alyementoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

alyementoday alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
alyemen, Alyemen, Alyemen