"كأنّ ما يحدث لشخوصهِ يرتكز على نبوءة متحقِقة، لا محاله، أهو أوديب الّذي يمشي إلى قدره وهو على يقين بأنّه سيحتال على نبوءات العرّافة؟ أم بطلُ الأسطورة الخارق الّذي لا يكلّ من رسم انتصارات، ولو على أنقاض ركام، ركام نكبات قتلت أصحابها حبًّا وحقدًا؟.. نشم رائحة الحدث أكثر من مّا نراه، هو سبب كاف ليسحب لهفتنا إليه".
رؤية نقديّة: رجاء بكريّة
استرجاعًا لهويّة الحلمُ المتقدّم جيلًا وتجربة يحضر "شيرديل الثّاني" كواقع ملحمة حداثيّة للتاريخ الفلسطيني المُقاوِم، والكاتب يتسقطّ الحدث ليحكي ما شاء له الحكي، معبّأ بالأسطورة كذريعة لتخليد شخصاني، لوجوهٍ وأحداث، وكأنّها حضرت تحقيقًا لنبوءة ثُوّار العالم، مُختَصرين بثورة واحدة، ثورة شعبهِ هو، أولئك، الّذين وَفدوا مُحَصّنين بنبوءات حكاية لا آخر لتجلياتها، تقولُ "سنصلُ آخر الدّنيا لنعود مدجّجين بالإصرار على الأمل".
شيرديل الثّاني
برؤيتنا المتواضعة لتجربة عبد العال، نرى إلى شيرديل الثّاني كإنجاز يستحقّ أن يُقالَ فيهِ ملحمة بالمعنى الحداثي للتّسمية، لذلك يحدثُ أن تتجاوز مفاهيم الملحمة الإغريقيّة الّتي >تسحرنا كلّما قرأناها، لتعيدنا هذه المرّة إلى الواقع، شخصيًّا أعتبر هذا العمل تحقيقًا فكريًّا
- حسيًّا لمشروع الطّفل، الّذي أنجز ما يشبه الجيرنيكا في قصّته، آنفة الذّكر "صبي يكتب على الهواء"، بفارق زمنيٍّ يكاد يكون مستحيلًا، لكنّه المستحيل الممكن في معجم روائي لا يتعب من النّبش والبحث في خبايا الذّاكرة، هو تيّار اللاوعي من حقّق هذه المعادلة:
(جداريّة لرجال يتعانقون بقبضات الأيدي في لوحة = عمل بُطولي جماعي لشخوص خرجت من تاريخها لتوثّق مواقفها)، ليس بفعل سحر لكن بفعلٍ وعي، وهذا ما يعجبني تحديدًا في تداعيات هذه الرّواية، فعل الوعي الّذي يصطدم بواجهات زجاجيّة عدّة يكسرها ويدخل منها إلى مرايا كثيرة، حتّى لوح الزّجاج الأخير الّذي يريده مُمثّلًا بصوت امرأة تعيده إلى المرآة الأولى، كأنّ ما يحدث لشخوصهِ يرتكز على نبوءة متحقّقة، لا محاله، أهو أوديب الّذي يمشي إلى قدره وهو يعرف أنّه سيحتال على نبوءات العرّافة؟ أم بطلُ الأسطورة الخارق الّذي لا يكلّ من رسم انتصارات، ولو على أنقاض ركام، ركام نكبات قتلت أصحابها حبًّا وحقدًا؟
لا يبدو للقارىء بأنّه رسمُ بيكار بقدر ما هو صدفة محضة تؤدّي دورها لتخلط ورق المرحلة بمنطق حسيّ يتجاوز المنطق الفكري الوجودي الّذي نعرفه، أصدّق هذا النّوع من الثّورات، لأنّها تخلق بعدًا جديدًا لواقع لم نتأكّد من حدوثه، والحقيقة أنّ أمر التّداخل بين الصّدفة والتّخطيط لا يعني ورقتنا هذه كثيرًا، لكنّ الّذي يعنينا قطعًا قدرة هذا الرّاوي على امتهان النّبوءة، وكلّنا يدرك مشقّة أن تحيل نبوءة إلى حقيقة تلامسها بحواسّك السّت.
في روايته،"شيرديل الثّاني" يصل مروان عبد العال إلى نضج حسّي في تداول أدوات المقاومة التّسجيليّة عبر تحديد مرجعيّات المفردة، لونها، شكلها، رائحتها، ومذاقها.
وستخطئون إذا اعتقدتم أنّه جلس يفرز، بل يخلط اللّون بالحرف، ويكتب بأنامل طفل مجابهات عوالم خسرها، ويحرص على استرجاعها، ولو بثمن السّباحة في بحار ليست له، ذلك لأنّه يعتبر المغامرة بحره الوحيد الممكن، والتّاريخ بمرجعيّات شخوصه مَلِكُها.
يحضر الجسد هنا، شأن الأمكنة والأزمنة بأزمات منعطفاتها، نشمّ رائحة الحدث أكثر من مّا نراه، هو سبب كاف ليسحب لهفتنا إليه، ويبدو لي أنّه ليس الموروث الفنّي وحده سببًا في شدّ خيطان روح وهميّة تخصّنا جميعًا في الحدث، بل التّجربة الشّخصيّة مع أبعاد هذا الموروث، كون الرّاوي بعض تجربة الحدث جسديًا وفكريًّا، ولعلّ هوايته الّتي اعتدناها في التّحليق المفاجىء شكّلت سببًا مباشرًا في تجنّب السّقوط في ابتذال محتمل، والجميل أنّه رغم حماس الكاتب، المدِمّر أحيانا، استطاع أن يتجاوز السّقطة حين أبقى على مساحة المتخيّل معلّقة في هواء النّص شأن كلمات ذلك الصبيّ البعيد، فأنشأ مسافة عالقة بين الحدث وزمكانيّته، ليضمن أمميّتهُ كتحصيل حاصل لتداعيات الظّرف التّاريخي _ حسّي، فكرًا ومضمونًا، زد إلى ذلك أنّ المركّبات البنيويّة لمضامين العمل محشودة بمعرفة واسعة تزخم التّفاصيل باللّون والحركة، هو لا يتحرّك بمعزل عن أحدهما، لأنّهما بعض مرجعيّات الضّروريّة في تحقيق الفكرة الملحميّة في الحكاية، وروايتنا هذه أرضُ حكايا تأخذك لكلّ بقعة لا تتوقّعها، وطريق لم تجرّبها قدماك، والدّهشة السيّدة تصير دليلك في معركة الجبل شأنها في معركة الطّائرة، وأنت كمتلقّ تتجهزّ شأن البطل لمفاجآت من عيار جديد، فكلّ دعسة لقدمك على أرض المطار، تماثل دعس قدمك فوق الجبال القريبة من حدود الفلسطين، مفخّخة بقنبلة فرح تحييكَ بقدر ما تقتلك، فخطّ المواجهة مفتوح بين الفدائيّين والإحتلال، وعلى جميع الجبهات برًا بحرًا، فضاءًا وقلبًا حقدًا وقهرًا، وأنت المتلقّي المحتجز بين قنبلتين، واحدة تسيّر أمور قلبك، والأخرى توزُّ في ذاكرتك.
هذا التّجاذب بين عوالم تفترق بقدر ما تلتحم، تفرض مشاحنات فكريّة تُزامِنُ المُشاحنات الجسديّة المرصوفة شعرًا، خيالًا، مواجهة على طول ملحمة تزخر حكايا، عن الثّورة والوطن، تعزلُ الأسطورة عن تداعيات القلبِ حينَ يرهف، ويصيرُ هو الآخرُ غيمًا لا مرأة تشاكسُ ملامحها المسافة، لكنّ حضورها جسدًا، ومعنى لم يغنِ الرّواية تمامًا، ففي هذه الملحمة وجدتُ مساحة الحُلُم أنسب لامرأة بنصف حضور، ونصف غياب، لتبقي مسافة نسج لقارىء لا يمتلىء، فالزخم الفكري - حسّي الّذي أغنته الأسطورة، ونبوءات العرّافة على غناهما كان يكفي.
لم يعان العمل من غياب المرأة كأصل، أو مرجع، أو حتّى تابع، ذلك لأنّها جاهرت بحضورها عبر العرّافة الّتي لم تترك مكانًا فارغًا، إلّا واستولت عليه، ونثرت فيه من عطرها شأن حكمتها، وإذ كنتُ أسجّل مأخذًا على السياق الحدثي لهذه الملحمة الفكريّة، فسأخرِجُ الكلام، الّذي جاء على لسان المرأة في الجزء الأخير من اعتبارات النّص، فاعتقادي أنّ هذا الهبوط المُفاجىء عبر تعميم اللّغة في مستوى السّرد لم يضف لمضمون أو جماليّة النّص، ولم يغن الحدث بتفاصيل يفتقدها، بل ربّما أثقل قليلًا على رشاقة السّرد وانسيابيّته، والتّداخل الفنّي بمستوياته الكثيرة، وأعني الانتقال السّلس ما بين تداعيات الذّاكرة والحوار وخيالات الأسطورة، كلّها معًا التفّت على التّاريخ الشّفوي والمكتوب لتصنع حالة فريدة من فكرة التّوثيق الملحمي – فنّي لأحداث مدوّية الحضور في حلق التّاريخ الحلم لفلسطين، فجميعها روافد زخمة تثري مصادر الرّواية على نحوٍ يتجاوز المُسجّل إلى مُبتكر، فنحنُ حين نحكي نبحث عن مصادر نوعيّة لإدهاش الحِكاية بما لا تعرفهُ عن تجلّياتها، وهذا تمامًا، ما حصل في "شيرديل الثّاني" برأيي.
وإذا كُنّا نلخّص هذه المسيرة النّادرة في الأدب الفلسطيني الملتزم، فإنّنا نرجّح تسجيل هدف نوعي في فنيّة أدب المُقاومة، الّذي يخاف الكثيرون الخوض فيه، ويهربون من مفرقعاته. إذ بقيتُ على اعتقاد أنّ الأدب الجيّد هو الّذي يخوض غمار عشق جارف بذاتِ الشّراسة الّتي يخوضُ فيها غمارَ اختراقً نوعي لصفوف العدوّ، كلّ عدو بغضّ النّظر عن أسمائه ومرجعيّاته، لؤمهِ ودمويّةِ رأفتِهِ، أليس فعل العشقِ أيضًا استثناء في الإخلال بشروط الغزو؟
أعتبرُ هذه آلرّواية واحدة من أمّهات آلرّواية الفلسطينيّة، ملحمة حقيقيّة تنهض على أبعاد شخصيّة متخيّلها من واقع أحداثها آلنّاجزة، فواقعها من عمق متخيّلهَا، ومتخيّلها يتخطّى آلحالة آلدارجة لبطل إغريقي يسجّل موتَهُ خلودًا على مذبح آلتّضحيّة، إنّه شيرديل، البطل النّموذج لتداخلات الحالة الفلسطينيّة الكثيرة، بنار ارتطامها ونورِ اشتعَالِها، لكنّ الإستثنائي في بطلها أنّه كرة وهج لا تنطفىءُ لأنّها تؤمنُ أنّ الثوريين وَفدوا إلى هذا العالم محصّنين بنبوءات حكاية لا آخر لتجلياتها، هم يجعلون أجسادهم فعلَ مقاومة حتّى آخر رمق، ولعلّ سحر الإلتفاف الّذي ينجزه التّاريخ على مصادر الحكاية يُقنعنا، بلا منازع، أنّ المداد الحقيقي لثوابت الرّواية هو دِمَاءُ صانِعيِها، وَما عدا ذلكَ كذب وهراء.
أعترف أنّها رحلة، تابعتُ تحوّلاتها لحظة بلحظة لأجزم أنّ الأدب الّذي يخوضُ معارك ضارية في صناعة الحضور فكرًا، وعاطفة، وحدثًا يجب أن يُناور الخلود.
أرسل تعليقك