تعود إحدى لوحات مسرح "بيزييه" بالذاكرة إلى واحدة من العديد من المناسبات في تاريخ المدينة الطويل عندما فتحت ذراعيها للأجانب، وكُتب على اللوحة ما يلي: " يُعرب لاجئو بلجيكا عن عميق امتنانهم لسكان بيزييه الفرنسية للترحيب الذي تلقوه منهم بين عامي 1939 حتى 1941". وكانت بيزييه ملاذاً للأسبانيين الفارين من الغزاة الشرقيين من الجزيرة العربية في القرن الثامن قبل فترة طويلة من سعي اليهود في بلجيكا لفترة راحة قصيرة من الاضطهاد النازي، ولكن اليوم توفر المدينة ضيافة قليلة للمحرومين مثل مالك وخالدة الفيلفي وأطفالهم وهم لاجئون من الحرب في سورية.
وتعيش عائلة الفيلفي في خوف حتى اليوم بعد أربعة أعوام من هروبهم من منزلهم في حمص غرب سورية بعد تعرضه للقصف اليومي من قبل القوات الموالية للرئيس بشار الأسد وشروع العائلة في رحة طويلة إلى أوروبا، حيث قرر مسؤولو بيزييه المحليون في خطوة تعسفية أنه يجب على الأسرة مغادرة فرنسا والعودة إلى أسبانيا حيث دخلوا الاتحاد الأوروبي لأول مرة هناك ، بعد أن أصبح لديهم منزل وأصدقاء وتعلموا اللغة الفرنسية أيضا، إلا أن العائلة ليس لديها مكان للإقامة في أسبانيا ولا تعرف أحدا.
وينص قانون "دبلن" الذي يعود تاريخه إلى فترة التسعينات، على أنه يجب على اللاجئين طلب اللجوء في الدولة التي وطأت قدمهم فيها أولا، وهو القانون الذي عفا عليه الزمن وأصبح غير مناسب للتعامل مع التدفق الحالي من اللاجئين إلى أوروبا وهو في طور التفكيك. وأسقطت أنغيلا ميركل هذا القانون الخريف الماضي، وأعلنت أنه يحق لجميع السوريين طلب اللجوء إلى المانيا، وتبعتها في ذلك السويد، وتستطيع فرنسا أن تفعل نفس الشي وفعلته في الماضي لكنها ترفض فعله حالياً في حالة عائلة الفيلفي.
وأخبِر مالك (41 عاما) وخالدة (32 عاما) وأطفالهم هشام (15 عاما) وفاتا (12 عاما) وهمام (8 سنوات) بواسطة المقاطعة المحلية أن لديهم 48 ساعة لمغادرة فرنسا، محذرين العائلة بالسجن في حالة البقاء في البلاد، ويحكم بيزييه اليمين المتطرف ممثل في حزب "الجبهة الوطنية" والذي يدعم رئيس البلدية روبيرت مينارد، والذي أخبر اللاجئين السوريين أنهم غير مرحب بهم في مدينته. وتختبئ العائلة حاليا في منزل مُقترض، فيما تشعر خالدة بالرعب إذا ما سمعت نقرة على الباب خوفا من الشرطة، وتشعر بالخوف والاكتئاب وتعاني من فقدان شعرها والصداع النصفي، بينما لم ينم مالك منذ صدور قرار الطرد.
ويقول مالك " كل يوم كنت أخبر أطفالي أن الوضع سيكون أفضل عندما نصل إلى فرنسا وأصبح لدينا أصدقاء في فرنسا وزوجتي تتحدث الفرنسية، وأخبرت أطفالي أنه يمكنهم الذهاب إلى المدرسة، كانوا يسألون متى نستطيع الذهاب إلى المدرسة وكنت أخبرهم غدا ، عندما نكون في فرنسا سيكون كل شئ على ما يرام".
وتعد قصة عائلة الفيلفي قصة مألوفة من البؤس والاستغلال الذي يعاني منه ملايين السوريين الذين فروا من الحرب في بلادهم إلى أوروبا. وكان قرار الطرد بمثابة ضربة قاسية للعائلة التي قامت بالرحلة الخطرة والطويلة إلى فرنسا وكانت خالدة حينها حاملا في شهرها الخامس واضطرت للإجهاض، وسعى الزوجان للجوء إلى فرنسا بمجرد وصولهم قبل ستة أسابيع وكانا متفائلين، وتمت الموافقة للعائلات السورية التي كان تواجدها غير قانوني في بيزييه والتي عبرت من أسبانيا على طلب اللجوء، ولكن لحرصهم على عدم كسر القانون رفضت عائلة الفيلفي المكوث في العراء مثل بقية اللاجئين واستطاعت العثور على منزل من خلال منظمة إنسانية محلية.
وكانت العائلة تحترم القانون ولذلك يظنون أنه لا يوجد سبب لمعاقبتهم، وعندما وصلت اليهم رسالة استدعاء إلى مقر الشرطة الأسبوع الماضي، كانوا مستعدين للاحتفال، وبدلا من ذلك صودرت جوازات سفرهم وأخبروا بقرار طردهم. وبموجب اتفاقية تمت بوساطة الاتحاد الأوروبي مع فرنسا العام الماضي، وافقت فرنسا على قبول توطين 30.700 لاجئا الذين وصلوا عن طريق البحر في إيطاليا واليونان، إلا أن تم توطين ما يتراوح بين 300 إلى 500 لاجئا فقط.
واعترف وزير الداخلية برنارد كازينيف أنه على الدولة القيام بعمل أفضل، فيما أخذت بيزييه عشرات العائلات السورية، أما الذين وصلوا عن طريق البر مثل عائلة الفيلفي يواجهون مستقبلا أكثر غموضا، وهم ضحايا القرارات المتقلبة حول ما إذا كان يمكنهم البقاء أم الرحيل.
وأفادت مقاطعة "مونبيليه" لجريدة "أوبزرفر" أن العديد من العائلات السورية التي جاءت إلى فرنسا من أسبانيا سُمح لهم استثنائيا بطلب اللجوء في الخريف الماضي، إلا أن هذا توقف لمنع إنشاء طريق لللاجئين في المنطقة. ويذكر أن 27 بالغا و13 طفلا من سورية طلبوا اللجوء في مونبيليه، وتواجه عائلتان الطرد بموجب لائحة دبلن، ويضم مقاطعة هيرو التي تقع فيها مونبيليه 1.1 مليون نسمة.
وكانت الحياة جيدة بالنسبة لمالك وخالدة في حمص قبل الحرب، وكان لمالك وصديقه حسن وظائف جيدة ذات أجر جيد حيث كانا يعملان في بناء خطوط أنابيب النفط، وكانت زوجتاهما وأطفالهما أصدقاء أيضا، وفي عام 2011 عندما دعا المتمردون السوريون إلى الإطاحة بالرئيس، وبدأت القوات الحكومية تقصف المدينة ليلا ونهارا بقذائف المورتر ونيران القناصة، وبحلول عام 2012 اشترى مالك منزلا جديدا وسيارة وكان يعمل لمدة شهرين ويحصل على أجازة لمدة شهر من خلال عقد في الصحراء الجزائرية، عندما أرسلت خالدة له رسالة قائلة "أخرجنا من هنا".
وتقول خالدة " كانت تُلقى العديد من القنابل علينا وشعرت أننا سنموت جميعا، واعتقدت أننا نعيش أخر ساعاتنا على الأرض"، وأخذت العائلة الأشياء الثمينة التي يمكن حملها وفروا من حمص إلى الجزائر، وبعد انتهاء عقد مالك وحسن فكرا في العودة إلى حمص ولكن بعد عامين من الحرب كانت الفرصة أقل. ويضيف مالك " قضيت فقط 6 ليالي في منزلي الجديد وتركته ومعه سيارة "بيجو" جديدة سرت بها 12 كيلو متر فقط، ودفن كل ذلك تحت الأنقاض حاليا أنا متأكد من ذلك".
ودفعت العائلة للمهربين لتوصيلهم إلى المغرب ومن هناك عبروا إلى أسبانيا، ودفعوا للسكان المحليين لأخذ أطفالهم واحدا تلو الأخر، ومن أسبانيا سافرت العائلة إلى جنوب غرب فرنسا حيث يعيش شقيق زوجة حسن لمدة 12 عاما، وتابع مالك " دفعنا كل ما لدينا وكان حوالي 6 آلاف دولار للوصول إلى هناك، ولكن لماذا؟ حتى يوقولون لنا أنه علينا العودة مرة أخرى إلى أسبانيا، هذا ليس خيارا، ليس لدينا شيء في أسبانيا، وأسبانيا لا تريدنا ، نحن نضيع وقتا ثمينا في حين أن أطفالنا يجب أن يكونوا في المدرسة، لقد فقدوا براءتهم ويفقدون مستقبلهم مع كل شهر يمر".
وذكرت جين ماري لاروز من منظمة التضامن للاجئين " ليس هناك جحافل من اللاجئين السوريين هنا، ولا أعرف لمذا تعامل المقاطعة هذه العائلة بهذه القسوة، وفي إمكانهم استخدام حرية التصرف لكنهم لا يريدون، ربما لأنهم يريدون أن يظهروا وكأنهم يضيقون الخناق"، وحتى بعد السماح بطلب اللجوء يجب على المتقدمين الانتظار لمدة تصل إلى 19 شهرا للموافقة عليه، وفي خلال هذه الفترة لا يمكنهم العمل أو الحصول على فوائد، وبلغ متوسط معدل اللجوء في فرنسا 22% عام 2014 مقارنة ب 45% في جميع أنحاء أوروبا.
وتضيف لاروز " نحن نتحدث عن عدد قليل من العائلات السورية، وفرنسا مشاركة في الحرب في سورية وأقل ما يمكن أن تفعله هو الترحيب بهؤلاء الناس الذين اضطروا إلى ترك منازلهم وبلادهم، ويعد ذلك جزءا من اتفاقية جنيف وإعلان حقوق الإنسان"، وأوضح حسن ومالك أنهما سيحاولان استعادة وظائفهم في شركة النفط إذا تمكنوا من الاستقرار في فرنسا، وأضاف مالك " كل ما نريده في فرنسا هو حياة طبيعية لأطفالنا، وإذا توقف الحرب يوما ما في سوريا سوف نعود وهذا إذا كان لدينا شي نعود من أجله".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر