بقلم/مصطفي الفقي
سمعت فى الأيام الأخيرة أحاديث متفائلة لعدد من كبار الاقتصاديين المصريين حول بعض المؤشرات التى توحى باحتمالات التعافى القريب للاقتصاد المصرى من المحنة التى عانى منها فى السنوات الأخيرة، ويعتمد أصحاب هذه الآراء على بعض الحقائق منها- على سبيل- رفع الدول «الاسكندنافية» حظر زيارة مواطنيها لجنوب سيناء، مع تصريحات أخرى عن احتمالات عودة الطيران الروسى خلال شهرين إذا مضت الأمور فى طريقها المقرر، ويستند الاقتصاديون أيضا إلى هبوط- ولو طفيف- فى سعر الدولار
أمام الجنيه المصرى، وهو ما يعنى احتمال ثبات سعر العملة المصرية عند حد معين يستقر عليه، كما أن الحصيلة الدولارية للسندات المصرية قد حققت ما يقرب من أربعة مليارات دولار ورغم أننى لست من هواة الاستغراق فى التفاؤل، إلا أننى أزعم أن هناك إحساسا عاما لدى الدوائر الاقتصادية فى الداخل والخارج أيضا حول استجابة الاقتصاد المصرى للعلاج الجذرى والفعال الذى أقدمت عليه الحكومة المصرية بتخفيض نسب الدعم للمواد البترولية وتعويم الجنيه المصرى أمام الدولار تاركة الأمر لنظرية العرض والطلب وحرية التداول للعملة من خلال سعر واحد لها داخل البنوك وخارجها، وأنا لا أزعم أن الصورة وردية أو أنها سوف تكون كذلك فى القريب العاجل، ولكننى أدعى أننا ماضون على الطريق الصحيح، وإن كنا لا نغفل أبدا معاناة الطبقة الوسطى وما دونها، حيث فوجئت بانخفاض القوى الشرائية لدخولها إلى ما يزيد على النصف، ولكن اللافت للنظر هو أن المصريين قد تفهموا حقيقة الأوضاع الجديدة، رغم صعوبة الحياة وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق، لأن الدولار
أولًا: أن هناك شبه إجماع حول خصوصية الاقتصاد المصرى الذى يتسم بأن الجزء غير المنظور منه يكاد يقترب من نصف القيمة الكلية للناتج القومى الإجمالى، إذ إن قطاعا ضخما من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة لأن شرائح كبيرة من المصريين تمتلك بعقود ابتدائية ولا تهوى دفع الضرائب وتعشق تجارة (بئر السلم) إذا جاز التعبير!، ولذلك فإننى أظن أن الأرقام الدولية المعتمدة حول الاقتصاد المصرى ليست دقيقة، لأنها تسقط من حسابها ذلك الجزء غير المنظور من إجمالى الناتج القومى للاقتصاد المصرى برمته، ولعل ذلك يفسر استمرار حيوية الأسواق فى هذه الظروف الصعبة واستمرار حركة البيع والشراء بمعدلات غير متوقعة لاقتصاد تراجع فى السنوات الماضية حتى تحدث غلاة المتشائمين عن احتمالات إفلاس الدولة المصرية ودخول اقتصادها الوطنى «غرفة الإنعاش» لسنوات طويلة قادمة، وعلى هؤلاء وأولئك أن يغوصوا فى أعماق الاقتصاد المصرى لكى يدركوا حجم الاقتصاد الموازى ودوره فى التركيبة المصرية، حتى إن لعبت تجارة المخدرات دورا فى تحريك السوق المصرية فى بعض فترات تاريخ الاقتصاد المصرى!. وليس من شك فى أن صورة الاقتصاد المصرى أمام مؤسسات «بريتون وودز» أفضل مما كانت عليه من قبل، لأن المريض خضع للعلاج
ثانيًا: لقد درجت لغة الأدب والروايات الشعبية على الحديث عن «أغنياء الحرب»، وأنا هنا أتحدث عن فئة جديدة يمكن تسميتها «أغنياء محنة الاقتصاد المصرى»، فالمهربون نشطون، والمتلاعبون بأقوات الشعب موجودون، وقد حكى لى صديق سودانى قادم من «الخرطوم» أن السكر المصرى يباع بكميات كبيرة فى «السودان» بعد تهريبه من «مصر» فى وقت يتحدث فيه المصريون عن أزمة طاحنة فى تلك السلعة الهامة!، وقد لاحظنا جميعا أن أسعار بعض السلع كانت ترتفع أكثر من مرة فى اليوم الواحد وفقا لمؤشرات ارتفاع سعر الدولار حتى إن لم تكن هناك علاقة مباشرة بين ذلك الارتفاع والمخزون السابق من تلك السلعة، وأن هناك من يعبثون بالأسواق ويتلاعبون بالأقوات ويسعون إلى تدمير عملية الإصلاح الاقتصادى وهى فى مهدها، وهنا يأتى دور الحكومة فى ضرورة مراقبة الأسعار والضرب بشدة على أيدى العابثين بمقدرات الاقتصاد المصرى، والذين يستثمرون حاجات الناس ويسعون إلى امتصاص دمائهم من أجل الإثراء الحرام دون رادعٍ من دينٍ أو قانونٍ أو وطنية.
ثالثًا: أن الذى يتأمل الساحة المصرية ويرى المشهد الراهن، لابد أن يعترف بكم الإنشاءات الكبرى فى البنية الأساسية التى لا يبدو مردودها قريبا، ولكنها تحتاج إلى بضع سنوات قبل أن يشعر بها المواطن العادى، لأن تلك المشروعات الكبرى تحتاج إلى فسحة من الوقت ووفرة فى الجهد، وتلك هى المعادلة الصعبة فى الدمج بين عملية التنمية والإصلاح فى وقت واحد، حيث تطل علينا العدالة الاجتماعية التى تمثل هاجسا تاريخيا لدى المصريين عبر تاريخهم الطويل، لذلك فإن جرعات الأمل التى يجب ضخها فى شرايين هذا الشعب خلال هذه المرحلة يجب ألا تتوقف أبدًا، لأنها تعنى ببساطة أن الغد أفضل من اليوم، وأن ما هو قادم سوف يعطى إحساسا بالرضا ويمنح الناس الثقة المفقودة فى الحكومات المختلفة والنظم المتعاقبة.
أرسل تعليقك