ستجرى الانتخابات الرئاسية المصرية فى العام الجديد، وهو عام كاشف ومفصلى لأنه لن يكون مثل باقى الأعوام، فستواجه البلاد تحديات كبيرة لم تعرفها منذ عقود، وستكون أيضا سنة مفصلية ومفترق طرق بين السير نحو فشل مدوٍ، أو بداية ولو متأخرة لاستفاقة اللحظات الأخيرة التى تنقذ أحيانا بعض الطلاب من رسوب محقق بمراجعة استثنائية لا يحكمها الكبر ولا المشاعر والأهواء.
لماذا 2018 هو عام كاشف فى تاريخ مصر منذ عقود؟ لأن هناك متغيرا سياسيا كبيرا يفتح نظريا الباب أمام تغيير فى السلطة وهو موعد انتخابات الرئاسة، والذى سيمثل لحظة كاشفة سيتضح فيها التراجع الكبير فى اهتمام غالبية الناس بالسياسة والعملية والانتخابية وأيضا حجم التراجع فى شعبية الرئيس، والعودة لتجارب الانتخابات المعروف نتيجتها مسبقا من «الكنترول» والتى لا يهتم بها أغلب الناس.
نظريا نص الدستور المصرى على أن تبدأ إجراءات الانتخابات الرئاسية قبل 120 يوما من انتهاء المدة الحالية، (بدأت فى 3 يونيو 2014)، وذلك يعنى أن إجراءات الانتخابات الرئاسية ستبدأ فى فبراير من هذا العام ويكون إعلان اسم الفائز قبل 30 يوما من انتهاء المدة الحالية أى فى 3 مايو 2018.
وسواء أجريت الانتخابات فى أجواء تنافسية حقيقية (وهو لا يوجد مؤشرات على ذلك) أو فى ظل القيود الحالية، والذى سيعنى نسبة مشاركة هزيلة نتوقع أن تتراوح بين 5 و10% (دون تدخلات أو تزوير) فإن ذلك سيعنى انكشافا حقيقيا لحجم الغضب المكبوت لدى قطاع واسع من المصريين، وابتعاد أغلبهم عن المسار «السياسى» الحالى.
معضلة مصر الحالية التى ستكشفها انتخابات العام الرئاسية أنها لا تمتلك أى أدوات أو رسالة سياسية من أى نوع، فنظامنا الملكى ونظمنا الجمهورية امتلكت دائما أدوات سياسية لحكم البلاد بجانب الأجهزة الأمنية، فقبل ثورة يوليو عرفت مصر حزب الوفد كمعبر عن «الوطنية المصرية» وممثلا للأغلبية الشعبية، ولكن لم يسمح له بالحكم إلا ما يقرب من 7 سنوات، وتدخلت أجهزة «الدولة العميقة» فى طبعتها الملكية للحيلولة دون وصوله للسلطة وفق الإرادة الشعبية، ولكنه ظل حزبا حاضرا ورقما فى المعادلة السياسية.
وعقب قيام ثورة يوليو ومجىء عبدالناصر للسلطة، انشغل الرجل بتنظيم الجماهير فى تنظيمات سياسية حتى لو كانت جميعها فى إطار الحزب الواحد، وتماهى مع كل نظم التحرر الوطنى التى عرفتها دول العالم الثالث كلها (باستثناء الهند) والتى أسست لنظم تقدمية غابت عنها الديمقراطية بمعناها الليبرالى الحديث وحضر فيها خطاب التحرر الوطنى والاستقلال ومحاربة الاستعمار، أما السادات الذى خالفه تقريبا فى كل التوجهات، فإنه لم ينس أن يروج لرؤيته السياسية فى السلام مع إسرائيل والتحالف مع الغرب وأمريكا بآراء سياسية، وحتى مبارك الذى تراجعت السياسة فى عهده، فإن الدولة المصرية ظل بها رموز مدنية وسياسية تربت فى عهود سابقة وعلى قدر معقول من الكفاءة، كما امتلك حزبا سياسيا حاكما ظل أحد الوسطاء بين السلطة السياسية والجماهير رغم حضور الأجهزة الأمنية بقوة فى المشهد السياسى والانتخابى.
وقد تغير شكل النظام السياسى فى السنوات الأربع الأخيرة وأقصيت السياسة من المجال العام، وغاب الحزب الحاكم، لصالح سيطرة الأجهزة الأمنية بشكل مباشر على المجال العام والسياسى دون أى وسيط مدنى أو حزبى أو سياسى.
ولذا لن نندهش أن المشهد الحالى تراجع على المستوى المدنى والديمقراطى كثيرا عما عرفته البلاد أثناء مبارك وباقى رؤساء مصر «غير الديمقراطيين»، فلا يوجد حزب أو تنظيم سياسى مدنى يرشح الرئيس، ولا يوجد قرار فردى من رئيس الجمهورية للترشح، إنما شاهدنا حملة «علشان نبنيها» تردد أنها فرضت على كثير من بسطاء المصريين التوقيع على استماراتها «بالإجبار»، من أجل مطالبة الرئيس بالترشح مرة أخرى فى انتخابات الرئاسة، وهو مشهد غاب عن أعتى النظم الشمولية التى يترشح فيها الرئيس دون محايلة أو توقيعات لأنه فى النهاية ضامن النجاح.
فى ظل نظام يعانى من أزمات اقتصادية ومن غياب أو تغيب للأحزاب السياسية المدنية واختفاء الهامش السياسى الذى عرفته البلاد طوال عهد مبارك تصبح البلاد أمام استحقاق كاشف يتمثل فى انخفاض نسب المشاركة بشكل لافت إلى ما هو أقل من 10% فى ظل صعوبة التزوير الفج أو على الأقل سهولة اكتشافه وفضحه، مما يفقد الحكم الحالى جانبا كبيرا من ورقته الشعبية.
وهناك أيضا ما يتردد عن ضغوط تجرى من داخل النظام وخارجه من أجل تغيير معادلة الحكم الحالى وتسفر عن إجراء انتخابات تنافسية حقيقية يترشح فيها أسماء من الوزن الثقيل على أرضية الدولة الوطنية المدنية مثل أحمد شفيق أو غيره، وأن حديث د. حازم حسنى مؤخرا عن أن المؤسسة العسكرية ستقنع الرئيس السيسى بعدم الترشح فى الانتخابات الرئاسية القادمة جزء من هذا السيناريو حتى لو لم يكن هناك أى مؤشرات واضحة فى هذا الاتجاه.
معضلة «العام الكاشف» أنه قد يكون الفصل الأخير من مسار لم نر مثله منذ عقود، وقد يكون بكل أسف الفصل الأول، وأهمية 2018 أنها ستكشف جانبا مما سبق وسميناه «الصراعات المخفية داخل مؤسسات الحكم»، وخطورتها أنها تأتى عادة نتيجة لقتل السياسة المعلنة التى تتصور نظم شمولية كثيرة أنها مصدر الخطر عليها، فى حين أن تهديدها الحقيقى يأتى من داخلها ومن نمط غير مرئى من الصراعات السياسية يؤثر على النظام برمته.
يقينا ستزداد فى العام المقبل أزمات النظام السياسى المصرى الاقتصادية والسياسية ولن نقضى على الإرهاب فى سيناء بكل أسف فى 3 أشهر كما طلب الرئيس من رئيس أركانه، وسيبقى عام 2018 عاما كاشفا وحاسما فى تاريخ الحكم الحالى فى مصر.
أرسل تعليقك