بقلم/عمرو الشوبكي
رحل الأستاذ هيكل فى 17 فبراير من العام الماضى، وهو الذى قرر أكثر من مرة- منذ ما يقرب من 20 عاما- أن يستأذن بالانصراف عن الكتابة الصحفية أو الإشراف على المجلة الشهرية الوقورة «وجهات نظر»، ولعله كان يقدم رسالة لمَن بقوا فى مواقعهم 30 عاما بأنه حان وقت الانصراف وترك الساحة لجيل آخر، لأنه لم ينقطع حتى عامه الأخير عن الإدلاء بحوارات تليفزيونية وصحفية، هى الأكثر احتراما وجدية فى إعلامنا.
ومع مرضه الأخير منذ نهايات 2015 ورغبته فى المغادرة، ولو دون استئذان، رحل الرجل عن دنيانا، فى يوم كتابة هذا المقال من العام الماضى، وغاب الأستاذ عن محبيه وأصدقائه، حتى لو ظل حاضرا بدماثته وذكائه وموهبته وحضوره الإنسانى الكبير فى حياتهم.
يقينا الأستاذ هيكل ترك علامة مؤثرة لدى كل مَن اقتربوا منه، سواء مَن اتفقوا معه أو اختلفوا، ومازلت فى كل مرة أمر بجوار بيته الشهير على نيل الجيزة (حيث يبعد عن البيت الذى وُلدت وعشت فيه 45 عاما كيلومترا واحدا، وهو ما كان مثار تعليقه، الذى ربما سأقصه مرة أخرى، حتى انتقلت إلى حى آخر) أتذكره، وأفتقد حواراتنا المطولة ولقاءاتنا، التى كان بعضها فى فترات حاسمة فى تاريخ مصر، خاصة عقب 30 يونيو، حين قابلته مع د. زياد بهاء الدين حين كان متحمسا لدخولى وزارة حازم الببلاوى، وهو ما اعتذرت عن عدم قبوله فى النهاية.
قوة هيكل وقيمته الخالدة أنه ملأ الدنيا جدلا ونقاشا دون أن يكون له «منصب ميرى» أو «غير ميرى»، فقد خرج الرجل من رئاسة مجلس إدارة مؤسسة عريقة مثل الأهرام، فى فبراير 1974، وبقى حتى وفاته فى فبراير 2016، خارج أى موقع تنفيذى فى أى صحيفة أو مؤسسة إعلامية، ومع ذلك ظل هو محور الجدل الفكرى والسياسى والإعلامى فى مصر والعالم العربى.
وأذكر أنه قال لى مرة إن الرئيس السادات قد غضب منه غضبا شديدا حين قام بمقابله الإمام الراحل الخمينى عقب الثورة الإيرانية (أخرج واحدا من أهم كتبه، وهو مدافع آية الله)، وقال له: بأى صفة تقابله، ومَن كلفك بالذهاب إليه؟ فرد عليه الرجل بأنه ذهب وقابله بصفته الوحيدة، التى لا يستطيع أى حاكم أن يسحبها منه، وهى الكاتب الصحفى (الجورنالجى كما كان يقول).
رونق هيكل وسحره ينبعان فى جانب كبير منهما من قدرته على أن يكون مهنيا ومؤثرا وهو خارج السلطة، بعد أن كان إحدى ركائزها وأعمدتها الرئيسية طوال عهد عبدالناصر وأول حكم السادات، وهى رسالة للكثيرين لاستعادة المهنية فى العمل الصحفى والإعلامى، بعد أن غيَّبتها الفهلوة «والشطارة والمناصب الوهمية، التى أصبحت هدفا فى حد ذاتها، حتى لو أدارت (خرابة)».
المفارقة أن انسحاب الرجل وابتعاده عن أى منصب لم يرحمه من مدارس الجهالة (تعبير الأستاذ فى أحد حواراته مع لميس الحديدى) والبذاءة فى مصر، وهى عقدة سن الرجل، فكثير من معدومى الموهبة كانوا يعبرون عن استيائهم الدائم من وجود شخص فى التسعين من عمره يتكلم فى أمور السياسة، وتفتح له الفضائيات والصحف حين يريد، صحيح لو كان هيكل رئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو وزيرا أو رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحفية وبقى حتى سن الثمانين (ولا نقول التسعين) لكان من حق الكثيرين أن يقولوا له: أعطِ فرصة للأجيال الشابة، واترك مكانك ومنصبك، والحقيقة أن الرجل لم يمتلك على مدار أكثر من 40 عاما، أى منذ خروجه من الأهرام حتى وفاته، إلا قلمه وموهبته، وهى مسألة كانت كفيلة بأن تُصمت الكثيرين لو كان لدينا حد أدنى من احترام قيمة الموهبة، لو كنا نُقدّرها، سواء امتلكها شخص فوق التسعين أو العشرين.
هيكل هو العلامة الأبرز فى تاريخ الصحافة العربية والمصرية، وبوفاته فقدت مصر آخر رموز قوتها الناعمة، اختلف معه كما شئت أو اتفق معه، إلا أنه سيبقى فى النهاية نموذجا فريدا للعمل والجدية والموهبة، نتمنى ألا تجدب أرضنا عن أن تلد آخرين مثله.
أرسل تعليقك