لا أحد يتصور أن سياسة المعايير المزدوجة هى فقط سياسة غربية تجاه دول العالم الثالث، فجملة المعايير المزدوجة رددناها فى العالم العربى تعبيرا عن غضبنا من الانحيازات الأمريكية لإسرائيل وتطبيقها معايير مزدوجة فى التعامل مع ملفات حقوق الإنسان والديمقراطية، فتغمض أعينها عن جرائم سلطة الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين، وتصر على اعتبار كل أشكال المقاومة الفلسطينية للاحتلال نوعا من الإرهاب، وتشن حملات على بعض الدول حين تنتهك حقوق الإنسان، وتصمت على جرائم أخرى تبعا للمصالح والهوى السياسى.
وظل موقفنا من المعايير المزدوجة فى محله أحيانا، وفى أحيان أخرى اعتبرناه حجة لكى نتهرب من مسؤوليتنا فى مواجهة أخطائنا وضعفنا، فعلقناها على تحيزات الغرب ومعاييره المزدوجة.
والحقيقة أن الغرب حين يطبق معاييره المزدوجة، فهو فى جانب يعبر عن تحيزاته ضدنا، وفى جانب آخر يعبر عن استهانة وعدم احترام نتيجة سوء أوضاعنا الداخلية.
والمؤكد أن سياسة المعايير المزدوجة التى رفضناها خارجيا طبقتها نظمنا داخليا بامتياز حتى أصبحت دولة القانون غائبة تماما لصالح المعايير المزدوجة التى تطبق حسب الأهواء السياسية والأمنية.
فهل من الطبيعى أن يهرب وزير الداخلية السابق من تنفيذ حكم قضائى بالحبس 7 سنوات تحت سمع وبصر الوزارة المنوط بها تنفيذ أحكام القضاء والقانون؟ يقينا، هروبه لم يكن عملا بريئا، ولم يتم دون علم الأجهزة المنوط بها تنفيذ حكم المحكمة.
إن قضية تنفيذ الأحكام تخضع للمعايير المزدوجة، فهى تطبق على الضعفاء أولا وعلى كل المعارضين، أما المؤيدون فسينفذ فيهم الحكم فورا إذا لم يكن لهم ظهر، مثلما جرى مؤخرا مع نائبة فى البرلمان، فى حين تترك معايير الحكم المزدوجة كثيرا من المحصنين والمحميين يرتكبون جرائم أكثر بشاعة ولم ولن يحاسبهم أحد.
حكم قضائى على وزير الزراعة السابق (باشمهندس مدنى اتهم بالفساد) نُفذ فور خروجه من مكتبه وبعملية استعراضية أدهشت الكثيرين، فى حين أن وزير الداخلية السابق الذى اتهمه الشعب بارتكاب جرائم كثيرة وأدانته المحكمة فى قضية فساد كبرى، ومع ذلك لم نجد سيارة دفع رباعى واحدة تراقب منزله، إنما يهرب بكل سلاسة وتحت إشراف مَن كان يجب عليهم توقيفه، لأن المعايير المزدوجة لها ناس وناس.
هل شهدنا مجلس نواب فى العالم يعتبر أن لائحته البرلمانية أعلى من نص دستورى وقانونى قاطع، وحكم قضائى بات ونهائى من أعلى سلطة قضائية فى مصر وهى محكمة النقض؟ وهل حجة من هذا النوع يمكن تصورها لو كانت أسماء القضية معكوسة، أى لو كان الحكم فى صالح أسماء تحركها أجهزة الأمن؟ لكان بالتأكيد نُفذ فورا، لأن المعايير المزدوجة لا تقول إننا فى دولة قانون إنما فى «طابونة»، كما قال الرئيس، يحاسب فيها الناس حسب حيثياتهم لا باعتبارهم مواطنين.
المعايير المزدوجة جوّدت فى مصر وأصبحت تتعامل مع كل مواطن باعتباره متهما محتملا، فلو كان من أهل الحظوة (يذكروننا بأهل الحل والعقد)، فلن يحاسب مهما كانت جرائمه، لأن القاعدة القانونية ليست عامة ومجردة كما تعلم طلاب السنة الأولى فى كلية الحقوق إنما هى خاصة ومفصلة.
قانون السلطة القضائية اعتبره الكثيرون فُصل لاستبعاد اسمين من رئاسة الهيئات القضائية، وكأن كل مشاكل العدالة الناجزة فى مصر اختُزلت فى استبعاد اسمين، وحللنا مشكلة بطء إجراءات التقاضى والحبس الاحتياطى الذى تحول إلى عقوبة تجاوزت فى بعض الأحيان العامين بالمخالفة للقانون.
دولة القانون ليست فقط شرطا للتحول الديمقراطى إنما هى شرط لتدفق الاستثمارات والسياحة والتقدم الاقتصادى، وهى تخلق الثقة بين المواطن ودولته ونظام حكمه، ويجب ألا يتصور أهل الحكم أنه يمكن أن تتقدم مصر خطوة واحدة للأمام فى ظل إهدارٍ فجٍّ للأسس التى قامت عليها دولة القانون.
كل الدول التى تقدمت، بما فيها الدول غير الديمقراطية، هى التى أسست أولا دولة قانون، فالصين (وغيرها من دول العالم) يحكمها حزب سياسى واحد هو الحزب الشيوعى (وليس المؤسسة العسكرية)، بها قانون ينظم كل مناحى الحياة فى السياسة والاقتصاد وليس بها تعددية ولا ديمقراطية، فدولة القانون هى القاعدة الأساسية للنجاح، والمعايير المزدوجة هى القاعدة الأساسية للفشل.
يجب ألا نتصور أن سياسة المعايير المزدوجة التى نطبقها فى الداخل ستجعلنا قادرين على مواجهة المعايير المزدوجة فى الخارج، فحين يكون نظامنا فى الداخل قائما على تحيزات وأهواء وعشوائية، علينا ألا نتوقع أن يحترمنا العالم ويتوقف عن معاييره المزدوجة لصالح دول تطبق على شعوبها نفس المعايير المزدوجة وبصورة أكثر فجاجة.
علينا أن نصلح ما بأنفسنا حتى نستطيع أن نقنع العالم بأننا جادون فى بناء نظام دولى قائم على العدالة والمساواة والقانون، لا أن نطالب بهذا العالم فى الخارج ونطبق عكسه فى الداخل.
أرسل تعليقك