جانب من النقاش العام فى مصر يدور حول قدرة المجتمع على بناء دولة القانون والديمقراطية، فهناك من يرى أن المشكلة هيكلية فى بنية المجتمع، وأن الشعب غير مهيأ للديمقراطية، وأنه لا يمكن لبلد مثل مصر أن يصبح ديمقراطيا لأسباب ثقافية واجتماعية، وهناك من يحمّل النظم الحاكمة المسؤولية الوحيدة والحصرية لكل ما وصلت إليه الأمور فى البلاد من تدهور سياسى واقتصادى، وأن الحل فى إسقاط السلطة الحاكمة (أىّ سلطة حاكمة) حتى نستيقظ فى الصباح ونجد أمامنا مصر الديمقراطية الجديدة.
والمؤكد هناك تيار واسع يرى أننا مجتمع غير مؤهل للديمقراطية، وأن خطابى سلطة مبارك والسلطة الحالية عبرا بدرجات مختلفة عن هذا المفهوم، ولكن من المؤكد أيضا أن هناك تيارا شعبيا واسعا يضم أطيافا من الطبقات العليا والوسطى وحتى الشعبية يرون أن الأمية والجهل وتدهور التعليم والعوز كلها عوامل تجعل مجتمعنا غير مهيأ للديمقراطية.
والحقيقة أن هذا النقاش ظل مطروحا طوال عهد مبارك، وأن الحديث عن أننا شعب لا تصلح معه الديمقراطية مقولة رددها كثير من الناس ووجدوا لها شواهد وسلوكيات تقول «لسه بدرى» على بناء الديمقراطية.
فكثير منا يستمع لجمل من نوع أننا شعب جاهل ومتخلف لا تصلح معه الديمقراطية، مستندا على مظاهر «كارثية» يعانى منها المجتمع، فمن بيع بعض الناس لأصواتهم فى الانتخابات تحت وطأه العوز والفقر والإحباط، ومن انهيار التعليم وبقاء ثلث الشعب أميا لا يقرأ ولا يكتب، فكيف نتوقع أن تنجح الديمقراطية فى هذا الواقع كما يردد البعض؟
والمؤكد أن هذه كلها عوامل قد تعطل تحول مصر نحو دولة القانون والديمقراطية، وستمثل تحديا مضاعفا، وقد تؤدى أوضاعها الاجتماعية والثقافية إلى بقائها فى مسار الدول المتعثرة التى لا تتقدم ولا تنهار، وتعرف نمطا ناعما من النظم الشمولية تعتمد على تغييب وعى وأمية قطاع واسع من المجتمع.
والمؤكد أن هذه الأزمات ليست بسبب عيوب «جينية» فى الشعب المصرى تحول دون تحوله نحو دولة القانون والديمقراطية، إنما هى فى معظمها مثالب مكتسبة من السياق السياسى المحيط، وتحتاج لإرادة سياسية من قبل أهل الحكم لمواجهتها والبدء أولا فى بناء دولة القانون ثم التحول الديمقراطى.
لا يوجد شعب مهيأ للديمقراطية وآخر غير مهيأ لأسباب وراثية، إنما يوجد شعب تحيط به ظروف سياسية واجتماعية تسهل من انتقاله نحو الديمقراطية وآخر تحيط به ظروف تصعب من ذلك.
وحالنا فى مصر ينتمى للنوعية الثانية، فلا يجب أن يتصور الديمقراطيون والثوريون والتقدميون أن انتقال مصر نحو الديمقراطية حتمية تاريخية، فنظريات الحتميات التاريخية سقطت، وأن مصر قد تبقى أوضاعها كما هى، وقد تسوء وقد تتحسن، فتلك أمور بيد المجتمع ونخبته على طريقة إذا الشعب يوما أراد الحياة، ولكنه لأسباب كثيرة ليس كله يريد الحياة فى ظل الديمقراطية.
ولذا من المهم التأكيد على أن مشكلات مصر لن تُحل بإسقاط النظم القائمة إنما بالأساس فى القدرة على إصلاحها أو تغييرها، لأن الإسقاط كما جرى عقب ثورة يناير عنى فى جانب رئيسى منه بانكشاف المجتمع ككل واتضاح عجزه عن تقديم بديل مدنى ديمقراطى لنظام مبارك، بما يعنى أن الأزمة كانت فى النخبة والمجتمع معا، فى حين أن المسار الإصلاحى والضغط السياسى على النظم القائمة يعنى أن المجتمع يتعلم ويكتسب خبرات ومهارات وهو يتعامل مع النظم القائمة من أجل الإصلاح السياسى والعمل على بناء دولة القانون والديمقراطية، وفى نفس الوقت يتطور النظام القائم ويستجيب لرسائل المجتمع وضغوطه ويبدأ فى إجراء الإصلاحات.
من أين نبدأ؟ نعم سنبدأ حين يقدم المجتمع ونخبته «أمارة» على أنه يتطور ويرغب فى أن يعيش فى ظل دولة قانون وقادر على تقديم بديل مهما كانت العقبات التى تضعها النظم الحاكمة أمامه، صحيح أنه نجح فى ثورة 25 يناير أن يقطع نصف الطريق برفض ما هو قائم وأسقطه ولكنه فشل فى بناء بديل له.
البداية لن تكون فى الإسقاط إنما فى بناء بديل مدنى يؤمن بدولة القانون والديمقراطية ويقدم ما يقنع القطاع الغالب من الرأى العام أنه قادر على الضغط السياسى وتقديم بديل، أما الاستمرار فى اتهام الشعب بأنه غير مهيأ للديمقراطية دون أن تضع النظم الحاكمة أى إطار قانونى أو دستورى يساعده على تعلم الممارسة الديمقراطية فهى حجة لتكريس الوضع القائم، فى نفس الوقت فإن استسهال فكرة أن الحل فى إسقاط النظم الحاكمة أو فى إقصاء كل المعارضين أو المؤيدين وتجاهل بناء البديل المجتمعى والسياسى يعنى العودة لما هو أسوأ من النظم التى ثارت عليها الشعوب، لأنه يعنى احتجاجا فى الفراغ دون امتلاك أفق لسياسات بديلة قابلة للتطبيق لا أن تقال فى بيانات.
على مصر أن تبدأ بمشروع سياسى إصلاحى يتحاور مع النظام القائم ويكون قادرا على الضغط عليه فى حال امتلك قوة حقيقية على الأرض (ولو بالمعنى النسبى) تدفعه للبدء فى بناء دولة القانون الغائبة، التى تبتعد كل يوم رغم الشعارات الرسمية التى تتحدث عن وجودها.
أرسل تعليقك