بقلم - عمرو الشوبكي
السؤال الذى يشغل بال كثير من العقلاء فى بلادنا: لماذا يحتجون فى بلد غنى ومتقدم وديمقراطى مثل فرنسا؟ وما هى الأسباب التى دفعت آلافاً منهم إلى التظاهر بهذا الإصرار والتحدى، ودفعت مئات إلى ممارسة عنف انتقامى بهذه القسوة والحدة؟
سؤال مشروع طُرح عندنا وعند غيرنا، بعيدا عن نظريات التجهيل البائسة أن أمريكا مولت المظاهرات اعتراضا على دعوة ماكرون بناء جيش أوروبى، أو أن هناك مؤامرة إخوانية تقف وراء هذه الاحتجاجات.
والحقيقة أن أسباب هذه الاحتجاجات ترجع لمجموعة من العوامل الداخلية والعالمية، بعضها يتعلق بأسئلة كبرى لا مكان لها فى مقال صحفى مرتبطة بأزمة الديمقراطية التمثيلية بشكل عام، وما تعرف بالسياسات «النيوليبرالية» (يصفها البعض بالرأسمالية المتوحشة)، والثانية لها علاقة بسياق الواقع الفرنسى الذى يمتلك إرثا ثوريا ضاربا فى التاريخ، على عكس النموذج المحافظ فى بريطانيا الذى يتطور دائما عبر عملية إصلاحية.
ويمكن القول إن فرنسا «متعودة» على الاحتجاجات السياسية، ولكن لأول مرة تشهد احتجاجات عشوائية ليس وراءها حزب ولا نقابة ولا زعيم، وأجرت تعبئة عبر مواقع التواصل الاجتماعى، حتى لو حاولت الآن بعض القوى السياسية أن توظفها لصالحها، خاصة اليمين المتطرف.
ومثلت سياسات ماكرون وطريقته فى التعامل مع المحتجين (والشعب بشكل عام) عاملا رئيسيا وراء تصاعد هذه الاحتجاجات، فالرجل يطرح حزمة من الإصلاحات الاقتصادية رفع بمقتضاها أسعار الوقود بنسبة 14%، وقال إنها من أجل الحفاظ على البيئة ودفع السائقين لتقليل اعتمادهم على السيارات، وهو أمر كان يمكن بحوار مجتمعى حقيقى أن يمر ولو بصعوبة، ولكنه فى نفس الوقت قرر إلغاء الضرائب على الثروات الضخمة وهى ضريبة «اشتراكية» مطبقة فى فرنسا، فأصبح فى أعين الطبقات الشعبية رجلا يرفع أسعار الوقود الذى يؤثر فى معيشة عموم الناس، وفى نفس الوقت يلغى الضرائب على ثروات كبار الأغنياء، ففجر طاقة غضب كبيرة.
ورغم أن النظام السياسى الفرنسى يقوم على الحوار بين مختلف اتجاهاته، ولا يعرف كلمات من نوع المتآمرين والأجندات والطابور الخامس تعمى الحكم عن رؤية مشاكل الواقع، فاعترف بوجود مشكلة وفتح حوارا مع المحتجين وكل الأحزاب، وأصر الرئيس الفرنسى ألا يدخل طرفا مباشرا فى أى حوار، وصدّر رئيس حكومته.
لقد نالت هذه الاحتجاجات فى بدايتها دعم 80% من أبناء الشعب الفرنسى (قلّت مع العنف لتصبح أكثر من النصف)، كما أن درجة العنف التى شهدتها واستهداف المتظاهرين للشارع الأفخم فى أوروبا (الشانزليزيه) يؤكدان أن هناك مشكلة اجتماعية كبيرة يعمّقها ماكرون ويصر على مواجهتها المحتجون.
مشكلة فرنسا ليست عابرة، وهى أزمة كبيرة مرشحة للتفاقم، إلا لو خرج الرئيس من استعلائه وتراجع عن رفع أسعار الوقود (مرجح) وجانب من سياساته.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك