بقلم : عمرو الشوبكي
حين تقرر وزارة التربية والتعليم المصرية حذف اسم د. محمد البرادعى من بين الحائزين على جائزة نوبل للسلام من مقرر الصف الخامس الابتدائى، فنحن أمام ليس فقط فضيحة أخلاقية وسياسية، إنما أيضا جريمة علمية مكتملة الأركان
يقيناً الدكتور البرادعى، السياسى، محل خلاف مثل كثير من الشخصيات العامة والسياسية، والمؤكد أيضا أن مواقفه السياسية كانت محل خلاف عميق داخل المجتمع المصرى، فهناك (الكثيرون) اعتبروه الملهم الأول لثورة 25 يناير، وهناك من اعتبره أحد دعاة الفوضى ومدفوعاً من القوى الأجنبية لهدم مصر على اعتبار أن ثورة يناير كانت نكسة على البلاد، وهناك أيضا من اعتبر أن تأييده لثورة 30 يونيو هو تأييد لانقلاب عسكرى، وأنه شريك فى الدماء التى سالت، كما يقول الإخوان وأنصارهم، وهناك من أدانه من الضفة الأخرى حين اعتبر أن استقالته من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية عقب فض اعتصام رابعة كانت هروبا من المسؤولية، وكانت قرارا صادما أكد أنه «رجل تويتر» وليس «رجل دولة».
وفى مقابل كل هؤلاء هناك تيار مؤثر بين المصريين، خاصة الشباب، آمن بالرجل بشكل شبه مطلق، واعتبره رجل مبادئ وقيم، وظل تعليمه العالى ومكانته الدولية الرفيعة ودوره الكبير فى ثورة 25 يناير مصدر إلهام للكثيرين.
والحقيقة أن البرادعى، السياسى، كان محل جدل، ولكن البرادعى الذى حصل على جائزة نوبل ليس محل جدل، فهى معلومة تاريخية محايدة، والطبيعى أن تكون محل فخر لأى مصرى، خاصة أن أديبنا العملاق نجيب محفوظ وعالمنا الكبير أحمد زويل قد حصلا عليها، وتصبح بذلك مصر هى الدولة العربية الوحيدة التى حصل ثلاثة من رموزها الأدبية والعلمية على جائزة نوبل، وحتى نوبل التى حصل عليها الرئيس السادات مناصفة مع رئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجين هى أيضا واقعة تاريخية محايدة بصرف النظر عن رأينا السياسى فى جرائم الاحتلال الإسرائيلى، والمقولة التى يرددها الكثيرون بأن كامب دافيد فتحت الباب لإرهابى مثل بيجين أن يأخذ جائزة نوبل للسلام، فكل ذلك لا يلغى الواقعة المجردة ولا يحذفها من التاريخ.
والحقيقة أن البرادعى لمن يخوّنونه هو ابن الدولة المصرية، فقد كان نائبا لوزير الخارجية المصرى قبل التحاقه بالعمل فى وكالة الطاقة الذرية التى أصبح مديرها قبل الغزو الأمريكى للعراق، وكان تقريره الشفاف (على عكس ما يروج الكاذبون) بأن العراق لا يمتلك سلاحا نوويا سببا فى فضح الدوافع الحقيقية للغزو الأمريكى للعراق، والنتائج الكارثية لهدم مؤسسات الدولة العراقية وفى قلبها الجيش.
البرادعى شخص وطنى لديه رؤية سياسية محل خلاف، فهو لم يبن مشروعا سياسيا قادرا على أن يؤثر فى أغلب المصريين، وانسحب من كل المواجهات التى كان يجب أن يخوضها (حتى لو كانت لديه أسبابه فى ذلك) ولم يبن حزبا شعبيا، ولم يستطع أن ينال رضا أو حياد مؤسسات الدولة ولا معظم الجماهير، فكل هذا قد تقوله كتب التاريخ واجتهادات السياسيين حين تنتقل من الوقائع إلى التقييم.
أما حذف اسمه من معلومة تاريخية تقول إن محمد البرادعى حصل فى 2005 على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التى رأسها، فهذه جريمة تزوير وتدليس غير مسبوقة من قبل المسؤولين عن التعليم فى مصر، وهم المنوط بهم تعليم النشء التربية قبل التعليم، فكان الدرس الأول الذى أرسلوه لطلاب مصر: «نعم نحن نزور الواقع والتاريخ».
اختلف مع البرادعى كما شئت سياسيا، وواجه مشروعه وأفكاره و«تويتاته» الحالمة كما تريد، لكن لا تخونه ولا تحذفه من التاريخ، وإذا كنت من هؤلاء الذين يبررون تزوير الوقائع وتغيير التاريخ بسبب موقفك السياسى، فترغب فى شطب عبدالناصر لأنك تحب السادات، أو ترغب فى شطب الحكم الملكى لأنك تحب عبدالناصر، وتبرر شطب حصول البرادعى على جائزة نوبل من كتاب الصف الخامس الابتدائى لأنك ترفضه وتكرهه سياسيا، وتعبر عن الحالة البائسة التى وصل إليها جزء من المجتمع المصرى، فعليك أن تبقى متسقا مع نفسك حتى النهاية ولا تشتكى من الإعلام غير المهنى الذى يغير الوقائع وتصفه بإعلام العار، وتقبل أن يغير الإخوان حقائق ما يجرى فى مصر لأنهم ضد النظام ويتمنون فشله، ولا تهتم بأن يتعلم أطفالك قيم الصدق والنزاهة، وأن يميزوا بين الواقع أو الخبر أو الحقيقة التاريخية المجردة كما حدثت «فى يوم فى شهر فى سنة»، وبين الموقف من أشخاصها.
فهناك هزيمة 67 وهناك انتصار أكتوبر، فهما واقعتان مجردتان، أما من المسؤول عنهما فهى اجتهادات سياسية محل جدل، فهل لو جاء فى مصر حاكم يكره الرئيس السادات وقال إن انتصار أكتوبر لم يحدث هل نقبل؟ مثلما حاول البعض أن يوهمنا أن محمد نجيب لم يكن رئيسا لمصر عامين، وأن محمد مرسى لم ينتخبه جزء من الشعب المصرى، وأن حسنى مبارك بقى رئيسا 30 عاما، فحين نكتب التاريخ سنذكر أنهم حكمونا فى حين أن تقييمنا لهم يظل أمرا مختلفا.
حذف اسم البرادعى من كتاب الصف الخامس الابتدائى من بين الحاصلين على جائزة نوبل يدل على أننا فشلنا فى التربية والتعليم معاً، ونلنا «الحسنيين» فى الخيبة الثقيلة.
أرسل تعليقك