بقلم - مكرم محمد أحمد
برحيل الكاتب الصحفى النابه صلاح عيسى الذى عاش معظم حياته العملية ناقدا ومعارضا ينتمى إلى فصيل نادر من اليسار الوطنى الذى أحسن قراءة تاريخ وطنه، وأدرك أهمية تضافر كل قواه السياسية والاجتماعية من أجل تحرير إرادة الوطن وتحقيق التقدم، تفقد الصحافة المصرية واحدا من ملاحيها الكبار الذين عرفوا عن يقين أن الصراع الطبقى فى غير أوان يفسد وحدة الوطن ويعطل مسيرته، وأن العدل الاجتماعى ينبغى أن يكون جزءا لا يتجزأ من مسيرة التقدم كى لا تبدد القوى الوطنية جهدها فى غير طائل!، وأن أبناء العمال والفلاحين والطبقة الوسطى الذين تحرروا من ذل الحاجة هم الذين سوف يصنعون تاريخ وطنهم. وعلى مدى سنوات عديدة، انتهج صلاح عيسى فكرا ناقدا معارضا، يكتب بقلمه الرشيق ما يجمع بين السياسة والتاريخ عن أحداث متنوعة من تاريخ مصر، يدلنا بمهارة فائقة على دروسها المستفادة، كما كان يكتب عن صور متعددة من واقعنا المعاصر، يجمع فى كتاباته بين عقلية المفكر ورؤية الباحث وأمانة المؤرخ وحسن تدقيقه إضافة إلى ذكاء مرح نفاذ، يحسن ضبط اللحظة المناسبة التى تمكنه من الوصول إلى كبد الحقيقة، ولعله أهم المؤرخين الاجتماعيين الذين رصدوا فى كتاباتهم حال الثقافة والمثقفين المصريين وواقع الصحافة والصحفيين المصريين والعرب فى كتابه الشائق « تباريح جريح» الذى أهداه لذكرى ناجى العلى، وأرخ فيه على نحو شائق لحياة الشاعر أحمد فؤاد نجم ليروى لنا تفاصيل العلاقة بين السلطة والرأى فى سباقهما وصراعهما على كسب وعى الإنسان أو استلابه، وفى إطار هذا الصراع المستمر اشتبك صلاح عيسى مبكرا مع نظام عبدالناصر عام 66 فى تجربة قادته إلى غياهب المعتقل، تعرض فيها صلاح لأشد صور التعذيب قسوة، ورغم قسوة التجربة ومرارتها انتصر صلاح عيسى لحكم عبدالناصر لأنه كان يعتبـر التزام عبدالناصر بالعدل الاجتماعى جزءا لا يتجزأ من مسيرة الحكم والتقدم، تشكل واحدا من الثوابت المهمة التى تضمن الاستقرار لمصر. وما من شك أن تجربة صلاح عيسى التى قضاها باحثا اجتماعيا فى عدد من الوحدات الاجتماعية فى الريف المصرى فى نهاية خمسينيات القرن الماضى قبل أن يعمل بالصحافة، وتعرفه على الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة فى ريف مصر هى التى مكنته من أن يكون جزءا من هذا الفصيل النادر من يسار مصر الذى أحسن قراءة تاريخ وطنه، وجعلت منه واحدا من أهم المؤرخين الاجتماعيين الملتزمين بفكرة العدالة الاجتماعية أساسا للحكم الرشيد.
أعرف صلاح عيسى عن قرب منذ سبعينيات القرن الماضى، وتربطنا معا وشائج قوية منذ أن جمعتنا مهنة الصحافة، وانشغلنا سويا بالعمل النقابى دفاعا عن حق الصحافة فى الحرية والاستقلال، وفصلنا الرئيس السادات سويا ضمن 70 صحفيا لأنه تصور خطأ أننا جزء من حركة اعتصام طلاب جامعة القاهرة، ولم يكن ذلك صحيحا، ورفضنا سويا ومعنا آخرون عرضا بالهجرة للعمل فى العراق بدعوة من صدام حسين، وآثرنا أن نبقى فى مصر، نواجه الحكم بشجاعة وندافع عن حقنا فى أن نعود إلى صحفنا، نواجه المسئولين فى جميع مواقع الحكم نسألهم عن مببرات الفصل وأسبابه، ونطالب الرئيس السادات بضرورة إحالة القضية إلى القضاء أو المدعى الاشتراكى إلى أن تمكنا من العودة إلى صحفنا قبل أيام معدودة من حرب أكتوبر المجيدة.
اختار صلاح عيسى موقعه كاتبا موهوبا مشاغبا يعمل ضمن مجموعة اليسار فى صحيفة الجمهورية لكن علاقتنا استمرت دائما قوية، وفى حالة حوار مستمر لم ينقطع أبداً سوى أسابيع محدودة لخلاف فى وجهات النظر حول سبل تنظيم الصحافة وضبط قوانينها، لكن صلاح عيسى كان دائما من أوائل من ينتصرون لحرية الرأى والتعبير وضرورة استقلال الصحافة عن السلطة التنفيذية، ويكاد يكون الفارق الأساسى بيناً أننى لا أؤمن كصحفى بالانتماء العقائدى أو الحزبى وأرى فى هذا الانتماء قيدا مضافا على حرية الصحفى، وكما انتصر صلاح عيسى لحرية الرأى واستقلال الصحافة وضرورة العدل الاجتماعى أساسا للحكم الرشيد، انتصر لحق الفلسطينيين فى دولة مستقلة عاصمتها القدس، ولم ينتصر لأى من أفكار وخطط حماس ولم يقبل بمبررات انفصالها الجغرافى والعقائدى عن فتح ودافع عن عرفات واعتبره رمزا لأمته فى قدرته على الربط بين الانتفاضة والتفاوض.
رحم الله صلاح عيسى صحفيا يساريا شريفا أدى واجبه تجاه وطنه ومهنته، أضاف قدر ما استطاع لكنه أبدا لم يتنكب الطريق الصحيح .
أرسل تعليقك