بقلم - مكرم محمد أحمد
أعتقد أن الحساب الدقيق لنتائج قرار الرئيس الأمريكي ترامب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وإضافة شرط تعسفي إلى حل الدولتين يعطي لإسرائيل حق الرفض أو القبول لهذه التسوية يؤكد أن العالم بأكمله يرفض قرار الرئيس الأمريكي الأحادي الجانب الذي يخالف كل قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة وقواعد القانون الدولي، ويشكل انحيازاً سافراً لإسرائيل يسقط دور الولايات المتحدة كوسيط في عملية سلام الشرق الأوسط، وأغلب الظن أن القرار سوف يظل معزولاً لا يسانده أي من دول العالم، والواضح أنه ما من دولة أوروبية سوف تحذو حذو الولايات المتحدة باستثناء دولة التشيك التي تدرس إمكانية نقل سفارتها إلى القدس، بما يؤكد أن القرار الأمريكي سوف يبقى قراراً منعدماً لا ينتج أي أثر يذكر، وأن ترامب قد أضر بمكانة الولايات المتحدة بقراره غير المشروع الذي يرفضه العالم أجمع، ويمتنع عن تنفيذه بصورة واضحة ومعلنة، أكدت وجود شرخ عميق في العلاقات الأوروبية الأمريكية يصعب اندماله في المستقبل القريب.
وكما لقى قرار ترامب معارضة كاملة وصريحة في الاتحاد الأوروبي لقى القرار هزيمة مرة في مجلس الأمن، حيث أدان القرار 14 من 15 عضواً في مجلس الأمن رغم محاولات نيكي هايلي مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة تبرير قرار الرئيس ترامب بأنه مجرد اعتراف بالأمر الواقع، وأن الولايات المتحدة لم تنتصر لطرف على حساب طرف آخر في قضية ترسيم الحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية، وأن حجم ونطاق القدس يتحدد في مفاوضات الحل النهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بينما يتحفظ سفير بريطانيا في الأمم المتحدة على قرار ترامب مؤكداً أن بلاده تتعامل مع القدس الشرقية على أنها جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن القرار الأمريكي لا يساعد على إحلال السلام في الشرق الأوسط، وأنه لا نية بالمرة لأن تنقل بريطانيا سفارتها من تل أبيب إلى القدس، بينما أكد رياض منصور المراقب الفلسطيني في الأمم المتحدة أن الولايات المتحدة فقدت بهذا القرار قدرتها على أن تكون وسيطاً نزيهاً في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، لأن حل القضية الفلسطينية لا يمكن أن يكون ممكناً بدون حل مشكلة القدس ولأنه لا دولة فلسطينية دون أن تكون القدس، الشرقية عاصمة لهذه الدولة. وليس هناك أدل على هزيمة الرئيس الأمريكي من أن يجمع مجلس الأمن، بإستثناء عضو واحد هو الولايات المتحدة على إدانة القرار الأمريكي وتوافق الجميع على عدم تنفيذه احتراماً للشرعية والقانون الدولي لأن الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل كان يتطلب بالضرورة اعترافاً بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية في نفس التوقيت. وكما لحقت الهزيمة القاسية بترامب في اجتماع مجلس الأمن واجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الذي عقد في بروكسل وحضره بنيامين نيتانياهو رئيس وزراء إسرائيل، لحقت الهزيمة بالرئيس الأمريكي داخل اجتماع القمة الإسلامية الإستنثنائية التي عقدت في إسطنبول التي حضرها ممثلو 48 دولة إسلامية بينهم 16 ملكاً ورئيساً، أصدرت إعلاناً يؤكد في أول بنوده ضرورة اعتراف العالم بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، ورفض قرار ترامب المنفرد لأنه قرار لاغ وباطل يقوض جهود السلام ويصب في مصلحة التطرف والإرهاب ويهدد الأمن والسلم الدوليين ويشجع سلطة الاحتلال على مواصلة سياسة الاستعمار والاستيطان والتفريق العنصري. ومن وجهة نظر الرأي العام العالمي يشكل القرار سقوطاً مدوياً للرئيس الأمريكي وهو من وجهة نظر الجارديان قرار أخرق جعل التوصل لحل الصراع العربي الإسرائيلي أكثر صعوبة، ويشكل يوماً حزيناً بالنسبة للقانون الدولي وللفلسطينيين، ولكل مهتم بالتوصل إلى حل سلمي في الشرق الأوسط، وبالنسبة للفاينانشيال تايمز قرار خطير جعل الجميع ضد الرئيس ترامب، بما في ذلك حلفاؤه المقربون ووفر بيئة خصبة للمتشددين والمتطرفين، وقلل من شأن الولايات المتحدة، وجعلها غير مؤهلة لوساطة نزيهة بين إسرائيل والفلسطينيين ! وبرغم أن ردود الفعل الغاضبة شملت كل المدن الفلسطينية، وغطت التظاهرات كل الشوارع في الضفة وغزة والقدس، وسقط فيها عشرات القتلى ومئات الجرحى رغم التزامها الحد الأدنى من العنف، إلا أن حساب الخسارة يؤكد أن أول خاسري المعركة هو الرئيس الأمريكي ترامب الذي أهان الدولة الأمريكية في عزلتها المزرية الراهنة، وجعل قراراتها موضع سخط العالم وازدرائه، والخاسر الثاني هو الشعب الإسرائيلي الذي أسلم قيادته لبنيامين نيتانياهو دون أن يفطن إلى خطورة شراهته في سرقة حقوق الآخرين، لكن أكبر الفائزين هو الشعب الفلسطيني الذي استطاع رغم هبوط درجة العنف أن يحفظ للقضية الفلسطينية وهجها وقدرتها على إقناع دول العالم، وأظن أن بين الكاسبين الكبار الأزهر الشريف الذي أصبح منارة للحرية والإباء ومرجعية رشيدة لوسطية الإسلام وشجاعته بهذا الأداء المتميز، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي رفض الامتثال لضغوط الإسرائيليين، وخلق لنفسه موقفاً مستقلاً عن الولايات المتحدة.
أرسل تعليقك