بقلم - مكرم محمد أحمد
لم يتمكن العرب والفلسطينيون من التوافق حتى الآن على رد واضح على قرار الرئيس الأمريكى ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، صحيح أنهم أدانوا القرار بإجماع عربى كامل وحظى موقفهم بإجماع كامل فى مجلس الأمن لم يشذ عنه سوى الولايات المتحدة، كما حظوا بمساندة الجمعية العامة التى أدانت القرار الأمريكى بـ 128 صوتاً مقابل تسعة أصوات لدول لم يسمع بها أحد وقفت فى صف القرار الأمريكى, على حين غاب عن التصويت وعلقت قرارها 35 دولة، لكن السؤال الآن، ما العمل إذا كانت الولايات المتحدة قد استخدمت حق الفيتو لتبطل قراراً لمجلس الأمن حظى بموافقة 14 من 15 صوتاً بينما قرار الجمعية العامة الذى حظى بموافقة 128 دولة هو بطبيعته قرار غير ملزم، وما هى الخيارات المتاحة خاصة أن الرئيس الفلسطينى محمود عباس، ومعه كل الحق, يؤكد أن قرار الرئيس الأمريكى الأحادى الجانب الذى إنحاز إلى إسرائيل ويخاصم الشرعية والقانون الدولى قد أنهى دور الولايات المتحدة كوسيط نزيه فى عملية سلام الشرق الأوسط، لأن القرار أصدر حكماً جائراً أحادى الجانب فى واحدة من قضايا الحل النهائي، فضلاً عن وجود قرارات أمريكية عديدة بأن القدس أرض محتلة تدخل ضمن قضايا الحل النهائى التى لا يجوز أن يصدر بشأنها أى قرار يحدد مصيرها وحدودها إلا فى إطار تفاوض الأطراف المعنية. وإذا كان الرئيس الفلسطينى محمود عباس قد أوضح بعد صدور قرار ترامب بما لا يدع المجال لأى شك أن الفلسطينيين لن يختاروا الإرهاب حلاً ويرفضونه رفضاً قاطعاً، كما يرفضون الحل العسكرى لأنك تحارب بسلاح يحسن الإسرائيليون إستخدامه، فضلاً عن عواقبه الوخيمة على الشعب الفلسطينى فى الضـفـة الغـربيـة والقـطاع فأيـن يكـون المخـرج الصحيح...
ربما يعاود بعض المزايدين الصراخ على الحرب حلاً وحيداً للقضية الفلسطينية بدعوى أن ما أخذ بالقوة لن يعود إلا بالقوة، هؤلاء مع الأسف يتحدثون وكأن قرار العرب قرار جاهز تم الاستعداد له، ولم يبق سوى صوت النفير كى تزحف جموع المقاتلين إلى الميدان!، نعم الحرب خيار يصعب استبعاده ولا اعتراض البتة على الحرب لمجرد أنها الحرب، وربما تتوافر كل أسبابها المشروعة بعد 44 عاماً من تفاوض غير مثمر لم ينجح فى تحرير بوصة واحدة من الأرض، وبعد 82 قراراً لمجلس الأمن و 750 قرارا للجمعية العامة لم ينفذ منها قرار واحد، وبعد هذا السيل من الاستفزازات الإسرائيلية والإهانات وإهدار الكرامة، وبناء كتل الاستيطان ونقاطه غير المشروعة، بعد عزم رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو المعلن على أن يتم فرض حدود القدس الجغرافية وأبعادها عبر قرار أحادى الجانب يخططون لتنفيذه بصرف النظر عن شرعيته، كما أصدر قرار الرئيس الأمريكى المتعلق بالقدس عاصمة لإسرائيل، لا اعتراض المرة على أن كل أسباب الحرب متوافرة وموجودة، لكن السؤال الصحيح يكمن فى مدى قدرة العرب الراهنة واستعدادهم لخوضها الآن، والاستعداد للحرب فى ظروفنا الإقليمية والعالمية الراهنة. وأظن أن النداء على الحرب الآن وسط ظروف انقسام العالم العربى وتمزقه وغياب كثير من قواه الأساسية مثل العراق وسوريا وتضارب الأولويات فى كل بلد عربى وفقاً لتحدياته وظروفه هو ضرب من المزايدة الرخيصة إن لم يكن نوعاً من التآمر أو فخاً منصوباً لما تبقى من قوى عربية لم تحترق فى غمار الربيع العربى الكاذب، هدفه توريط العرب أو من تبقى منهم فى هزائم جديدة، ولا يعنى ذلك أننى أستبعد الحرب لأنها تكاد تكون الآن ضرباً من المستحيل، ولكنه يعنى أن للحرب شروطها التى ينبغى ويتحتم أن تكون صحيحة كى لا تأتى بعكس نتائجها، وأول شروط الحرب حسن الإعداد الذى يوقع الخوف فى قلوب أعدائنا ما استطعنا، وحسن التخطيط الذى يضمن نجاحها، وحسن التدريب والتنفيذ الذى يعزز فرص النصر، تماماً كما فعل المصريون فى حرب أكتوبر، وكما يفعلون الآن لتعزيز قدراتهم العسكرية دفاعاً عن أمنهم ومقدراتهم، ومشاركة فى تحمل أعباء أمنهم القومي. ماذا يكون الحل إذن إن كانت الحرب الآن تكون هدفاً صعباً يحتاج إلى المزيد من القوة والاستعداد، ويحتاج إلى ظروف عالمية وإقليمية مغايرة تضمن صحة النتائج بحيث تأتى الرياح بما تشتهى السفن؟! فهل نذهب مرة أخرى إلى تفاوض مباشر دون وسيط نزيه بعد أن رفض الفلسطينيون وساطة الولايات المتحدة، وقد ظهر واضحاً لكل العيان انحيازها الأعمى الذى جعل الرئيس الأمريكى ترامب ينسى أو يتجاهل أن الولايات المتحدة وقعت عشرات القرارات التى تعتبر الكتل الاستيطانية عملاً غير قانونى يعترض ويعرقل مشروع السلام، وينسى أو يتجاهل عشرات القرارات الأخرى التى تعتبر القدس أرضاً محتلة لا يجوز للمحتل شيئا. لقد جربنا على مدى 45 عاماً التفاوض المباشر فى غيبة وسيط نزيه ومرجعية قوية عادلة وقادرة على منع فرض أمر واقع جديد من الأرض المحتلة لنكتشف أن مثل هذا التفاوض مضيعة للوقت والجهد وفرصة للقوى كى يفرض واقعاً جغرافياً وسكانياً على الأرض المحتلة يصعب تجاهله، مع أنه قانوناً منعدم وغير قائم ولا وجود له! لكن استبعاد الولايات المتحدة بالكامل من عملية سلام الشرق الأوسط كما يريد الرئيس الفلسطينى ربما يكون حلاً نظرياً سهلاً ومستحقاً، فى إطار عالم مختلف متعدد الأقطاب ينتفى فيه وجود الفيتو الذى يعطى للأقوياء وحدهم حق فرض الأمر الواقع، وإلى أن يجيء هذا اليوم الذى تتعدد فيه الأقطاب فى عالم أكثر ديمقراطية وعدلاً فلا مناص من أن الأمر الواقع كثيراً ما يفرض نفسه بصرف النظر عن العدل والمنطق والقانون الدولى وربما يكون الحل المتاح الذى يمكن تطبيقه ليس الاستبعاد الكامل للولايات المتحدة من أى دور فى سلام الشرق الأوسط، وإنما القبول بوساطة دولية جديدة تشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والروس والصين، يعملون جميعاً تحت مظلة الأمم المتحدة فى إطار خطة أكثر تكاملاً لسلام الشرق الأوسط، تعترف ابتداء بحق الفلسطينيين فى أن تكون القدس الشرقية عاصمة لفلسطين إلى جوار حق الإسرائيليين فى أن تكون القدس الغربية عاصمة لإسرائيل مع بقاء القدس بشقيها مدينة واحدة مفتوحة للجميع، يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود فى إطار حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية تعيش فى أمن وسلام إلى جوار دولة إسرائيل على أساس المبادرة العربية وشرطها الوحيد كل الأرض مقابل السلام ويبقى للفلسطينيين حقهم فى رفض التعاون الأمنى مع إسرائيل ما داموا قادرين على تفعيل هذا الخيار الذى يتطلب قدراً معقولاً من التوافق بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول الخطوط العريضة للتسوية السلمية للصراع الفلسطينى الإسرائيلي. وإذا كان الفلسطينيون على لسان الرئيس محمود عباس قد رفضوا بالفعل الإرهاب حلاً لأزمتهم الراهنة التى وضعت القضية الفلسطينية مرة أخرى على مفترق طرق صعبة، وينبذون أيضاً الحل العسكرى لأن الإسرائيليين أكثر قدرة على إستخدام هذا السلاح، ويرتضون العودة إلى التفاوض المباشر فى إطار دولى يضمن وساطة نزيهة تشمل الولايات المتحدة والإتحاد الأوربى والروس والصين كما أشار محمود عباس من طرف خفي، فكم من الوقت يستطيعون الصمود بعد أن عاقبهم الرئيس الأمريكى ترامب بتعليق 65 مليون دولار من أصل 125 مليون دولار معونة تدفعها الولايات المتحدة للأجئين؟! لقد ألزم محمود عباس نفسه بهدف تحقيق حل الدولتين بما يضمن أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين وليس أبو ديس القرية المجاورة التى عرضها الرئيس ترامب على محمود عباس ، كما طالب الرئيس عباس الفلسطينيين بالتخلى عن خيار المقاومة المسلحة مع الإبقاء على المقاومة الشعبية السلمية التى تشمل أطفال الحجارة والعصيان المدنى وكل صور المقاطعة بما فى ذلك إنهاء التعاون الأمنى مع إسرائيل. وسوف يلتقى الرئيس محمود عباس مع وزراء خارجية دول الإتحاد الأوروبى فى بروكسل فى نهاية هذا الشهر يعرض عليهم المشاركة فى وساطة نزيهة يشارك فيها الأمريكيون والروس والصين رغم تحذيرات الإسرائيليين التى عبر عنها دان شابيرو سفير أمريكا السابق فى إسرائيل من أن الأوروبيين كثير والشقاء قليلو الغني، أى أنهم سيعطونه مجرد كلام دون فعل، فضلاً عن تحذيرات أخرى أمريكية وغير أمريكية من أن القضية الفلسطينية لم تعد على أول سلم الإهتمامات العربية، بدعوى أن العرب مشغولون الأن بتهديدات إيران لأمنهم الوطنى التى أصبحت القضية الأولى للعرب، التى تسبق كل القضايا بما فى ذلك تهديدات أمريكا وإسرائيل لقضية القدس، وبرغم أن ذلك غير صحيح لأن القضية الفلسطينية لاتزال هى قضية العرب المركزية وقد رفض العرب بالإجماع موقف الولايات المتحدة وإسرائيل من قضية القدس، وحملوها إلى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، فضلاً عن أن إيران تجابه الآن أخطار حالة تتمثل فى انقسامها الشديد بين المحافظين والإصلاحيين والرغبة المتزايدة داخل الشعب الإيرانى فى التخلص من الاثنين بما فى ذلك ولاية الفقيه. وإذا كان العرب لا يفضلون الحرب الأن لظروف داخلية وإقليمية وعالمية صعبة، فإن ذلك لا يعُفيهم من مسئولية تعزيز صمود الفلسطينيين داخل القدس، والوقوف إلى جوار المقدسيين كى يتشبثوا بالثبات فى مدينتهم والبقاء على الأرض الفلسطينية مهما تكن المصاعب، لأن صمود 430 ألف فلسطينى فى مدينة القدس الشرقية يعنى الكثير بل يعنى تقويض المخطط الصهيونى بأكمله، وأظن أن ذلك هو الدرس الصحيح الذى تعلمه الفلسطينيون من درس النكسة، ألا يغادروا أراضيهم مهما بلغ حجم التعسف الإسرائيلى لأن البقاء فوق أراضيهم هو مصدر شرعية وجودهم وأمنهم داخل القدس التى سوف تبقى بأزقتها وحجارتها وعبق تاريخها وسكانها العرب ومسجدها الأقصى وكنائسها العديدة وفى المقدمة كنيسة القيامة مدينة عربية، عاصمة للدولة الفلسطينية، ولنتذكر أولًا وأخيراً أن الانقسام الجغرافى والعقائدى ما بين فتح وحماس هو السبب الأول لما فيه حال الفلسطينيين الراهن. وإعادة وحدة الصف الفلسطينى هو شرط النجاح الذى يسبق كل الشروط.
أرسل تعليقك