لم يحسن الليبيون استثمار الظروف الدولية الجديدة التي تحيط بالموقف الليبي الراهن، وجعلت العديد من الدول الغربية المؤثرة خاصة الولايات المتحدة أكثر اهتماما بأمن واستقرار هذه المنطقة الحيوية من شمال افريقيا التي تطل علي ساحل البحر الأبيض في مسافة تزيد علي ثلاثة آلاف كيلو متر، يسكنها الإرهاب ويطمح في أن تكون مقرا بديلا لجماعاته بعد سقوط داعش في العراق وسوريا، وتشكل أقرب المعابر البحرية إلي قلب أوروبا، يتدفق عبرها كل يوم آلاف المهاجرين القادمين من الجنوب ومن أصقاع عربية عديدة في العراق وسوريا يتعذر عليهم البقاء في أوطانهم التي دمرها الإرهاب والحرب الأهلية! ومن مناطق أخري كثيفة السكان تعاني الزحام والفقر وضيق فرص العمل، ويري شبابها في الهجرة غير الشرعية إلي أوروبا علي قوارب متهالكة الحل السحري لكل مشكلاتهم رغم مخاطر الغرق والموت شبه المؤكد قبل أن تتحقق أحلامهم في الوصول إلي الشاطئ الأوروبي!
لقد عاني الليبيون كثيرا من تدخلات الغرب التي مزقت الدولة الليبية وقوضت مؤسساتها وفتحت مخازن أسلحتها لتصبح تجارة السلاح مشاعا لعصابات دولية، تنقله إلي السودان ومصر وصولا إلي حماس في قطاع غزة وجماعات داعش في منطقة سيناء، وتتحول ليبيا إلي ملاذ لجماعات مسلحة عديدة متطرفة ينتمي معظمها إلي القاعدة وداعش وجماعة الاخوان تحت مسميات عديدة، يجمعهم هدف واحد وتربطهم تحالفات وثيقة..، وما من شك أن البريطانيين علي عهد رئيس الوزراء دافيد كاميرون والفرنسيين علي عهد رئيس الجمهورية ساركوزي يتحملون بقصر نظر هاتين الشخصيتين قدرا كبيرا من مسئولية الدمار الذي أحدثه حلف الناتو الذي ترك البلاد خرابا يبابا، يحكم مدنها هذه الجماعات المسلحة بعد سقوط حكم القذافي لتصبح ليبيا منطلقا لعمليات اجرامية واستهدفت أمن المتوسط والأمن الأوروبي، آخرها عملية مانشستر التي كشفت الدور الخطير الذي لعبه سليمان العبيدي، مواطن بريطاني من أصل ليبي ينتمي لتنظيم القاعدة، نجح في تشكيل تنظيم ارهابي يضم 14 شخصا من معارفه وأقاربه، جميعهم تلقي تدريبه العسكري في معسكرات للقاعدة داخل ليبيا!
كما عاني الليبيون طويلا من كثرة اللاعبين الأجانب علي أرضهم، كل يحاول توسيع نطاق نفوذه داخل ليبيا، ويرتبط بإحدي الجماعات الارهابية، يمولها ويساعدها ويدرب أفرادها لأهداف متعددة، ابتداء من الأخطر والأشد شراسة الذي وصل تدخلها السافر إلي نقل الأسلحة بحرا علي سفن شحن تصل إلي ميناء مصراتة وجوا علي طائرات قطرية سقطت احداها قبالة ساحل المدينة إلي جماعات الإخوان والقاعدة وداعش، نكاية في مصر وتهديدا لأمنها الوطني بهدف أن تصبح ليبيا شوكة في خاصرة مصر الغربية تستنزف جهدها الوطني، وتتحول مدينة درنة الليبية التي تقع علي مسافة 80 كيلو مترا من الحدود المصرية إلي قاعدة تنطلق منها عمليات الهجوم علي مصر، إلي دول الغرب التي حرص معظهما علي أن يكون له وجود عسكري فوق الأرض الليبية، سواء في ذلك ايطاليا وانجلترا وفرنسا والولايات المتحدة، يتمثل في قوات خاصة وعصابات تجسس تعمل في السر والعلن!
وزاد الوضع سوءا انتقال آلاف المقاتلين التونسيين إلي ليبيا وجميعهم كانوا تلاميذ راشد الغنوشي في جماعة الاخوان التونسية قبل أن ىأخذهم المزيد من التطرف، ويحاربون إلي جوار داعش في العراق وسوريا، ويضطرون العودة إلي ليبيا بعد هزيمة داعش، علي أمل أن تصبح ليبيا قاعدة بديلة لسوريا والعراق، ومركزا لخلافة أبو بكر البغدادى بعد حصار مدينة الرقة السورية واضطراره إلي الهرب عبر بادية الشام إلي صحراء دير الزور، وقاعدة عسكرية يمكن أن تسيطر علي منطقة الهلال البترولي في ليبيا بثرواتها الضخمة، ومنطلقا لعمليات عسكرية تهدد دول شمال افريقيا وعلي الأخص مصر وتونس والجزائر ومناطق غرب افريقيا، حيث توجد منظمة بوكو حرام الإرهابية الوثيقة الصلة بداعش تهدد أمن نيجيريا والنيجر وتشاد ومالي. ولا جدال في أن تغير الموقف الدولي من ليبيا، وتبلور سياسات غربية جديدة تري أن استقرار وأمن ليبيا يمثل مصلحة غربية وأمريكية أساسية تساعد المجتمع الدولي علي مواجهة مخاطر الإرهاب، ومشكلات الهجرة غير الشرعية التي ينطلق معظمها الآن من ليبيا، الدولة المفككة، بديلا عن تركيا التي يغلق الجيشان التركي والسوري حدودهما المفتوحة علي بحر ايجة، فضلا عن أن حصار قطر يشل قدرتها الآن علي مواصلة دعمها لجماعات الإرهاب في ليبيا الذي كان علي رأس اهتمامات قطر اضافة إلي حرصها علي دعم جماعة الاخوان، وكذلك القصف المصري للمواقع الليبية التي انطلقت منها عملية الهجوم علي أتوبيس أقباط المنيا وهم في طريقهم لزيارة الدير الذي أكد نهوض الدولة القوية في مصر وقدرتها علي الرد الفوري علي أي عدوان خارجي، وتأكيدات الأمريكيين الجديدة علي أهمية أمن ليبيا واستقرارها التى تعكس حجم تغير المناخ الدولى من حول ليبيا..، لا جدال أن هذه المتغيرات المهمة ساعدت على نشر موجة تفاؤل واسع بين جموع الليبيين الذين تكبر آمالهم الآن فى إمكان أن تستعيد ليبيا أمنها واستقرارها، وأن تتخلص من العديد من الجماعات المسلحة التى لا تزال تسيطر على بعض مدنها.
فضلا عن التغيرات الميدانية المهمة التى حدثت على أرض الواقع، حيث تمكن الجيش الوطنى الليبى بقيادة حفتر من السيطرة على معظم جيوب المتمردين واستطاع أن يمد نفوذه إلى مناطق الجفرة وتمنهيت وبراك الشاطئ القاعدتين الجويتين جنوب ليبيا، كما نجح الجيش فى تصفية الوضع فى مدينة درنة رأس الحربة الموجهة ضد مصر التى كانت تسيطر عليها جماعة الإخوان..، وفى المنطقة الغربية نجحت القوى الوطنية فى العاصمة طرابلس بمعونة الأمن والداخلية فى طرد كل التنظيمات المتشددة خارج المدينة، سواء فى ذلك جماعة خليفة الغويل وصلاح بادى وصادق الغريانى أس الفتنة ورأس الفساد، المفتى السابق الذى لعب دورا خطيرا فى تمكين الجماعات المسلحة من مدن الغرب الليبى، كما تمكن تحالف القوى الوطنية فى طرابلس من طرد معظم العناصر المتطرفة خاصة عبد الحكيم بلحاج رئيس تنظيم القاعدة ورجل قطر الأول فى ليبيا، وعلى الصلابى الملقب بقرضاوى ليبيا وشقيقه إسماعيل الصلابى قائد سرايا الدفاع بنغازى الهارب إلى طرابلس كما تغيرت كثيرا الأوضاع فى مدينة مصراتة قلب ليبيا التجارى التى اختطفها المتشددون لعدة سنوات، لتعود مصراتة مرة أخرى ضمن قوى الاعتدال التى ساعدت مصراتة على الخروج من أوضاعها الصعبة أو تصحيح علاقاتها مع العاصمة طرابلس بعد أن تورطت المدينتان فى نزاع جهوى المستفيد الوحيد منه قوى التطرف.
ولا يختلف الوضع كثيرا فى منطقة الهلال البترولى التى تشمل حقول النفط وموانيه، حيث يتولى الجيش الوطنى الليبى بقيادة حفتر مسئولية حماية مناطق البريقة وسدرة وإجدابيا ورأس لانوف، بينما تواصل المؤسسة الوطنية للبترول إدارة الحقول والموانى بما زاد من حجم الإنتاج من 120 ألف برميل فى اليوم إلى 800 ألف برميل يمكن أن تصل إلى مليون برميل يوميا مع المزيد من الاستقرار الذى يمكن المؤسسة الوطنية من صيانة الحقول وخطوط الإمداد ورفع قدراتهما الإنتاجية، ويستقيل البنك المركزى كل عائدات التصدير ليعيد توزيعها فى صورة رواتب لجميع العاملين فى الدولة، والوفاء بموازنات وتكاليف حكومة الوفاق الوطنى فى الشرق والغرب والجنوب.
وأظن أن السؤال المهم هنا:
إن كان المناخ الدولى حول ليبيا قد تغير إلى الأفضل فى مصلحة الأمن والاستقرار، وإن كانت أوضاع الداخل قد تحسنت فى الشرق والغرب والجنوب وداخل الهلال البترولى الذى يرتفع إنتاجه بصورة مطردة فضلا عن كراهية غالبية الليبيين للعنف والجماعات المسلحة..، فأين تكمن مشكلة ليبيا الراهنة؟!، وما الذى يحول دون قيام المؤسسات الليبية بدورها السياسى فى إنجاز توافق وطنى يلم شمل جميع الليبيين؟!
الواضح للوهلة الأولى أن مصدر العوار الأساسى فى الموقف الليبى هو تقاعس مؤسسات الدولة السياسية الثلاث عن القيام بمهامها وافتقارها الشديد لتكامل الجهود والتعاون المشترك، سواء مجلس نواب طبرق الذى تزايدت انقساماته الداخلية بصورة مرعبة عطلت أعماله ووظيفته، والمجلس الاستشارى للدولة الذى يضم 127 عضوا يتم اختيارهم على أساس جهوى ويعانى فراغا شديدا مكن جماعة الإخوان من اختراقه، والمجلس الرئاسى الذى يرأسه فايز السراج ويمثل سلطة الحكم الشرعية، ويتكون من 6 أعضاء يختارون على أساس جهوى، اثنان من الشرق واثنان من الغرب واثنان من الجنوب، ونال نصيبه هو الآخر من الانقسامات التى مكنت السراج من الانفراد بسلطة القرار، وبسبب افتقاد التعاون والتناغم بين المؤسسات السياسية الثلاث وقع الجميع فى أخطاء قاتلة ما كان ينبغى أن تقع!، أبرزها إقدام رئيس الوزراء فايز السراج على تقسيم ليبيا إلى سبع مناطق عسكرية دون أن يأخذ فى الاعتبار موقف الجيش الوطنى رغم تصريحاته المتعددة بضرورة تعزيز وحدة الجيش الوطنى!، وعلى الناحية الأخرى لم ينجح الفريق حفتر رغم جهوده الهائلة حفاظا على وحدة شرق ليبيا فى طمأنة غرب ليبيا لحسن نياته، وحرصه على تقريب المسافات بين شرق ليبيا وغربها استنادا إلى الحوار وليس اعتمادا على العمل العسكرى، أما رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح فقد ترك الحبل على الغارب للانقسامات تستشرى داخل مجلس النواب لتحيله إلى شلل ومجموعات متنافرة، فضلا عن أن الجميع لم يدرك خطورة تضييع المزيد من الوقت والانشغال بمصالح صغيرة متضاربة بدلا من تحمل المسئولية التاريخية والخروج بليبيا من حالة الانسداد السياسى الراهن!.
ولأكثر من عام ونصف العام والمؤسسات الثلاث، مجلس نواب طبرق والجيش الوطنى والمجلس الرئاسى تتصارع فيما بينها، بينما يدفع المواطن الليبى ثمن هذا الخلل، رغم اتفاق الجميع على خارطة طريق واضحة ترسم حلولا مهمة لهذه المشكلات، وتغلق الثغرات التى تركها اتفاق الصخيرات دون حل، وأولها وضع الجيش الوطنى الليبى ورئاسته وعلاقته بالدولة والشرعية الدستورية، ومالم تفطن المؤسسات الثلاث إلى أن الوقت ينفد، وأن الفترة الزمنية التى تم تحديدها فى اتفاق الصخيرات قارب على الانتهاء فى ديسمبر القادم، أن البديل هو دخول ليبيا فى مرحلة جديدة من الفراغ السياسى تؤذن بالمزيد من الفوضى، يزيد من خطورتها تآكل قدرة القائمين على هذه المؤسسات الثلاث بما يرشح ليبيا لأوضاع أكثر سوءا!
يحدث ذلك بينما تتغير الظروف الدولية حول ليبيا، ويصبح المجتمع الدولى أكثر قبولا لدولة أمنة مستقرة فى ليبيا تنهض بمسئولياتها على مواجهة جماعات الإرهاب والسيطرة على العصابات الاجرامية التى تستفيد من الهجرة غير الشرعية رغم آلاف الضحايا الذىن يموتون غرقا فى عرض المتوسط قبل أن تتحقق أحلامهم فى الوصول الى أوروبا!
لقد بح صوت مصر من كثرة نداءاتها على كافة الاطراف الليبية فى الشرق والغرب والجنوب كى تتحمل مسئولياتها التاريخية حفاظا على السلم الأهلى، وسعيا لاستكمال تأسيس وبناء هيكل مؤسسات الدولة، ووقف التدهور فى الأوضاع الأمنية والإنسانية، وتوحيد قوى الجيش الوطنى الملتزم بالشرعية الدستورية.
صحيح أن جهود مصر أسفرت عن الكثير من التقدم، لكن ما يؤرق مصر الآن غياب الاستثمار الصحيح لمتغيرات دولية جديدة يمكن أن تعجل بأمن ليبيا واستقرارها فضلا عن عدم الاهتمام بعامل الوقت والإسراع بالخروج من حالة الانسداد السياسى الراهن التى تؤذن بالمزيد من الفراغ والفوضى، وما من شك أن الخطوة الصحيحة المطلوبة الآن هى السعى لتنظيم لقاء بين حفتر والسراج يفتح الأبواب لمصالحة وطنية شاملة بين الشرق والغرب والجنوب، تهيئ لمؤسسات الدولة الثلاث ظروفا أفضل لتكامل جهدها الوطنى وتعزيز وحدة الدولة الليبية.
أرسل تعليقك