رغم سقوط ستة مدنيين قتلي علي بوابات معرض دمشق الدولي بفعل قذيفة صاروخية انطلقت من جيب للمتمردين يقبع في منطقة الغوطة الشرقية قريبا من العاصمة السورية إثر افتتاحه بعد انقطاع استمر لأكثر من ستة أعوام بسبب الحرب الأهلية السورية، واصل المعرض ـ الذي شاركت فيه 23 دولة، في مقدمتها مصر ـ فعالياته وأعماله تأكيدا علي أن الحياة تعود أدراجها في العاصمة دمشق التي تستعيد كل يوم المزيد من نشاطها وحيويتها، بينما يترسخ الأمن والاستقرار في معظم أنحاء سوريا، وتؤكد غالبية قوي المعارضة التزامها بوقف إطلاق النار، ويجتمع قادتها في الرياض عاصمة السعودية يعدون أنفسهم لترتيبات مرحلة انتقالية جديدة تقودها حكومة وحدة وطنية تشارك فيها المعارضة، تنتهي بانتخابات برلمانية ورئاسية في ظل تهدئة طويلة الأمد يحترمها الجميع، منذ أن توافق الرئيسان، الأمريكي ترامب والروسي بوتين، علي هامش قمة العشرين التي انعقدت قبل شهرين في مدينة هامبورج الألمانية علي إنهاء الحرب الأهلية والحفاظ علي وحدة الدولة السورية، ومن يومها يسود الهدوء النسبي سوريا، باستثناء المعارك الشرسة التي تدور علي أشدها في مدينة الرقة التي أعلنتها داعش عاصمة لها.
كان شيئا مهما وجميلا أن تشارك مصر في فعاليات معرض دمشق الدولي بوفد ضخم وجناح كبير احتل ساحة العرض الأولي وأسهمت فيه أكثر من 30 شركة مصرية، رأسه السيد أحمد الوكيل رئيس اتحاد غرف التجارة المصرية ولقي ترحيبا رسميا قويا، كما لقي حفاوة شعبية واسعة، خاصة أن الوفد المصري ضم مجموعة رائعة من الفنانين المصريين في مقدمتهم إلهام شاهين ومحمد صبحي اللذان نجحا في توصيل رسالة ود وتضامن إلي الشعب السوري، أكدت عمق العلاقات بين الدولتين المصرية والسورية وعبرت عن قوة التضامن مع الشعب السوري منذ أن تصاعدت حدة الأزمة خلال ذروة الحرب الأهلية، إلي أن وصلت سوريا إلي مشارف الأمن والاستقرار، والقاهرة تؤكد، علي مدار الساعة، التزامها الراسخ بوحدة الدولة والأرض السورية، وتحث كل الأطراف علي الإسراع بجهود التسوية السلمية وإنقاذ الشعب السوري الشقيق من هذا الوضع الكارثي غير الإنساني الذي يدين المجتمع الدولي بأكمله!
وقفت مصر إلي جوار الشعب السوري ونالها ما نالها، لكنها ظلت صامدة علي موقفها، إدراكا لعمق العلاقات بين الشعبين التي تكاملت علي مدي التاريخ، ووصلت أكثر من مرة إلي مستوي الوحدة السياسية الكاملة، رغم الفاصل الجغرافي بين البلدين، وكانت علي طول التاريخ، قديمه وحديثه، تملك قدرة تجديد نفسها وإصلاح مسارها حتي في أحلك الأزمات، انطلاقا من حقيقة إستراتيجية مهمة أكدتها المعارك التاريخية دفاعا عن الأمن العربي القومي ابتداء من معركة مرج دابق إلي حرب 73، فضلا عن الروابط التجارية عبر شرق المتوسط التي عززت علاقات الشعبين منذ أن كان الطريق الملاحي بين حلب ودمياط مفتوحا علي مصاريعه وصولا إلي ما قبل الحرب الأهلية السورية، حيث وصل حجم التبادل التجاري إلي ملياري دولار، فضلا عن وشائج ود وتقارب تعززت كثيرا في الأزمة السورية الأخيرة، ظهرت بوضوح في احتضان الشعب المصري أكثر من نصف مليون سوري يعيشون وسط الشعب المصري، يمارسون نشاطهم الإنساني والتجاري كمواطنين مصريين، لا مجرد لاجئين، في مدن ومناطق عديدة أبرزها 6 أكتوبر التي تغص بالمطاعم والمباني والمقاهي والأسواق السورية تعمل دون تصاريح عمل وتلقي ترحيبا واسعا في مختلف أرجاء مصر واحتراما بالغا لذكاء الإنسان السوري وشطارته وحسن أدبه وتعامله، فضلا عن مبادرات النخبة المصرية عندما قرر الاتحاد المصري لكرة القدم السماح بانضمام اللاعبين السوريين إلي أندية الاتحاد، بصفتهم لاعبين مصريين، كما طالب أكثر من 104 شخصيات عامة تنوعت بين كتاب وسياسيين وأعضاء في مجلس النواب، بضرورة إعادة التمثيل الدبلوماسي بين مصر وسوريا بشكل كامل، وأظن أن السوريين يعرفون جيدا أن واحدا من أهم أسباب الغضب المصري علي حكم المرشد وجماعة الإخوان تآمر الجماعة علي أمن سوريا، وإلحاحها علي ضرورة دعم مصر لما سمي يومها بـ«الجيش السوري الحر»، لكن قادة القوات المسلحة المصرية رفضوا بالإجماع مطالب الرئيس المعزول محمد مرسي في هذا الشأن.
لم تنقطع جهود مصر عن مؤازرة الشعب السوري في محنته الراهنة ابتداء من معاملة اللاجئين السوريين معاملة المواطنين المصريين دون أي تمييز، إلي دور مصر الفاعل في التوصل إلي اتفاق التهدئة الأخير ووقف التصعيد إلي حوارها العميق مع الرياض الذي استهدف كسب تعاطف السعودية للشعب السوري.
وربما يكون أكبر شاهد علي أن سوريا تخرج بالفعل من محنتها أن حالة التهدئة الراهنة سوف تؤدي إلي إنهاء الحرب الأهلية، بدءا بعودة اللاجئين السوريين إلي بلادهم بعد سنوات ذل ومشقة في المهجر الأوروبي الذي ضاق بهم ذرعا وأغلق أبوابه في وجوههم، باستثناء المستشارة الألمانية ميركل التي لم تخف رغبتها في الترحيب باللاجئين السوريين، وفقدت الكثير من شعبيتها لقاء هذا الموقف، رغم إعلانها الدوافع بأنها ترحب بالسوريين لتغطية نقص فادح في العمالة الألمانية!.. أصبحت الهجرة السورية عبئا ثقيلا علي دول الجوار، خاصة لبنان التي يعيش فيها أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ، تعرضوا لحملة كراهية شديدة من بعض قادة لبنان وفي مقدمتهم سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية الذي هدد بترحيل اللاجئين السوريين إلي الأمم المتحدة قسرا، إن لم تسارع المنظمة الدولية بإيجاد حل للمشكلة تخفف العبء الثقيل عن لبنان، ولا تزال تركيا البلد الذي استقبل أكبر عدد من اللاجئين (نحو ثلاثة ملايين لاجئ)، نجح الرئيس رجب الطيب إردوغان في استثمارهم ليتكسب أكثر من أربعة ملايين يورو مكافأة له من الاتحاد الأوروبي، لأنه أغلق حدوده في وجه السوريين الذين يريدون الهجرة إلي أوروبا عبر البلقان وبحر إيجة!
جاء التبدل الواضح في سياسات واشنطن بعد وصول الرئيس ترامب إلي البيت الأبيض الذي أعطي الأولوية في الأزمة السورية للحرب علي داعش وأصدر أوامره بعدم إعاقة الجيش السوري في الجنوب السوري وعلي الحدود مع الأردن، وطالما يحارب داعش وأينما تجري هذه الحرب، ثم جاء الإعلان الرسمي عن وقف برنامج وكالة المخابرات المركزية لدعم المعارضة السورية وتسليحها الذي أطلقه الرئيس أوباما قبل أربع سنوات، وتكلف مئات الملايين من الدولارات ووصفه ترامب بأنه «ضخم ومكلف وغير فعال»، مؤكدا أن القرار لن يتخذ لإرضاء روسيا، الحليفة الأساسية، لنظام بشار الأسد كما يقول السيناتور جون ماكين رئيس لجنة القوات المسلحة الذي وصف قرار ترامب بأنه غير مسئول وقصير النظر يحترم المصالح الروسية ويلعب لمصلحة الرئيس الروسي بوتين!
وبالطبع يدخل توافق الرئيسين ترامب وبوتين في قمة العشرين التي انعقدت في هامبورج علي ضرورة تهدئة الأزمة السورية، وتعزيز وقف إطلاق النار وتوسيع نطاقه، وإعطاء الأولوية للحرب علي داعش ضمن العوامل المهمة التي أدت إلي تغيير الوضع في سوريا، لكن ما من شك في أن صمود الجيش السوري ونجاحه في كسب معركة حلب وإجلاء داعش عن محافظات درعا وحمص وحماة ومنطقة تدمر الأثرية مرتين، واستعادة المزيد من الأرض السورية التي كانت تحتلها داعش، وتقدمه الحثيث في محافظة دير الزور ووصوله إلي مشارف عاصمة المحافظة بعد حصارها استعدادا لاقتحامها علي ثلاثة محاور رئيسية، يشكل العامل الأهم في تغيير الوضع في سوريا، لأنه لولا صمود القوات السورية علي الأرض لانهار الموقف بأكمله، وعجز الدعم العسكري الروسي وحده عن تحقيق هذا التقدم الضخم.
صحيح أن الأمريكيين ساعدوا كثيرا في معركة الرقة التي لا تزال تدور علي أشدها، ومكنوا القوات الكردية العربية المشتركة من الحصول علي السلاح والعتاد الثقيل والمعلومات المهمة التي مكنت قوات سوريا الديمقراطية من تحرير معظم أحياء ومناطق الرقة في معارك شرسة تكاد تكون صورة طبق الأصل من معركة الموصل، لكن الأمر المؤكد أن المعركة النهائية التي يخوضها الجيش السوري في دير الزور سوف تكون المعركة الفاصلة والنهائية التي تقوض وجود داعش في سوريا، وتجري متلازمة مع المعركة المهمة التي تخوضها القوات العراقية في منطقة تل عفر، ليصح القول بأن داعش قد اندحرت في كل من العراق وسوريا علي أيدي القوات العربية، رغم أن أجزاء من داعش التي اندثرت كمنظمة إرهابية يمكن أن تظل عنصر قلق في بادية الشام التي تفصل بين العراق وسوريا إلي أن يتم القضاء علي هذه البؤر المبعثرة تماما!
وبانتهاء معارك الرقة ودير الزور وتل عفر، المعارك الثلاث الأخيرة في الحرب علي الإرهاب، وتوحيد مواقف قوي المعارضة الذي يتم الآن في الرياض، تصبح الطريق سالكة لعقد جولة مفاوضات جديدة يتمني الجميع أن تكون الأخيرة في جنيف، تحقق توافق الحكم والمعارضة السورية علي شكل التسوية السياسية للأزمة وطبيعة المرحلة الانتقالية التي تنتهي بكتابة دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، لا نعرف بعد إن كان بشار الأسد سوف يشارك فيها مرشحا أم أنه ربما يجد الأصلح له هو الخروج الآمن قبل إجراء الانتخابات الرئاسية!
لكن ثمة ما يؤكد أن حوار المعارضة والحكم في الجولات السابقة، رغم أنه كان يجري عن بعد وليس بصورة مباشرة، إلا أنه أرسي بعض التوافقات المهمة التي يمكن البناء عليها.
> أولها: أن كل الأطراف السورية أصابها الإرهاق الشديد ولم يعد أمامها سوي طريق التسوية السلمية، بعد أن تأكد للجميع ما كان معروفا دائما بأن الأزمة السورية لن تجد حلا عسكريا، وهذا ما وضح بصورة لا تحتمل الشك في التزام كل القوي السياسية بالتهدئة ووقف إطلاق النار.
> وثانيها: استبعاد داعش وجبهة النصرة من أن يكونا طرفين في تسوية سلمية تهدف إلي إقامة مجتمع متعدد العرقيات يشمل جميع الفئات الإثنية والدينية دون تمييز، وإنشاء دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة في غضون 18 شهرا.
> وثالثها: توافق كل الحضور من الحكم والمعارضة والشهود علي ضرورة الحفاظ علي وحدة الأرض والدولة السورية واستبعاد أي حلول انفصالية ووقف أي هجمات علي المدنيين علي نحو نهائي.
وبالطبع يدخل ضمن إشارات التفاؤل بانتهاء المحنة السورية، إجماع الشعب السوري علي رفض المزيد من الحرب وشبقها الملحة إلي السلام والاستقرار، والعودة المستمرة لجموع المهاجرين السوريين من الخارج، وتوافق العرب جميعا علي ضرورة إنهاء الحرب السورية، وحماس العديد من الدول الغربية لإنجاز التسوية أملا في أن تغلق التسوية سيل الهجرة السورية التي تدق أبواب أوروبا، وينتهي عمل مفرخة خطيرة لجماعات الإرهاب تنتج كل يوم المزيد من الإرهابيين.
أرسل تعليقك