يتسع حجم الخلاف بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ليشمل العديد من القضايا والمشكلات، بحيث لم تعد وقفاً على قضايا التجارة الدولية وسبل حمايتها من الإحتكار والاغراق وغلق الأسواق لصالح المنتجات الوطنية، أو قضايا تغيرات المناخ التي تفصل بين الموقفين الأمريكي والأوروبي إلى حد دفع الرئيس الأمريكي ترامب إلى الإنسحاب من إتفاقية باريس لتصبح الولايات المتحدة وحدها في جانب وباقي الدول العشرين التي تمثل مجموعة الدول الأغنى والأقوى في جانب آخر، بما يحمله ذلك من مخاطر جسيمة على مصير كوكبنا الأرض نتيجة تفكك جهود المجتمع الدولي لخفض حجم الإنبعاثات الكربونية المعلقة في الجو ، التي تتسبب في ارتفاع درجة حرارة الكون وذوبان جليد القطبين وارتفاع مستويات المياه في البحار والمحيطات إلى حد يهدد بغرق نسبة غير قليلة من سواحل العالم ، فضلاً عن تغيرات مناخية أخرى ربما تكون أشد خطراً ، تتمثل في تنامي ظاهرات الجفاف والفيضانات والأعاصير بصورة تؤثر على كل مناحي الحياة فوق كوكبنا الأرض !
وفضلاً عن ذلك ثمة سبب أخر لإتساع حجم الخلاف بين الموقفين الأمريكي والأوروبي يتعلق بقضية الدفاع والأمن الأوروبي ، يتنامى ويتصاعد منذ دخول الرئيس الأمريكي ترامب إلى البيت الأبيض الذي يتهم الأوروبيين بخفض موازاناتهم الدفاعية قياساً على حجم ناتجهم الوطني وضعف إسهامهم في موازنة حلف الأطلنطي ليصبح العبء الأكبر من كلفة الدفاع الغربي على كاهل دافع الضرائب الأمريكي !
وثمة ما يؤكد أيضاً أن أخطر نقاط الإختلاف بين الأوروبيين والأمريكيين التي لم تجد بعد حلاً صحيحاً هي التي تتعلق بتضارب الرؤى والمصالح حول الإتفاق النووي الإيراني الذي وقعته طهران مع الولايات المتحدة و 6 دول أخرى بعد مفاوضات شاقة ومريرة، إنتهت بالإتفاق على رفع العقوبات الدولية عن إيران والإفراج عن أرصدتها المجمدة في بنوك الغرب مقابل تجميد إيران للجانب العسكري من برنامجها النووي، وإلتزامها بعدم السعي إلى إنتاج سلاح نووي، والإمتناع عن إنتاج يورانيوم عالى التخصيب بتجاوز درجة التخصيب المطلوب لإنتاج وقود نووي (4 في المائة)، وتفكيك مفاعلها النووي الذي يعمل بالماء الثقيل ، وإخضاع جميع مرافقها ومنشآتها النووية للتفتيش المنتظم والمفاجئ على مدار الساعة .
لأنه على حين تريد الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس ترامب مراجعة بعض بنود الإتفاق إن لم يكن هدره وتمزيقه وإلزام طهران وقف تجاربها الصاروخية، ترى طهران أن قضية تطوير قدراتها الصاروخية لا علاقة لها بالإتفاق النووي، وبينما تخطط واشنطن لفرض عقوبات جديدة على إيران وتدعو حلفاءها الأوربيين إلى الإمتناع عن المشاركة في أية إستثمارات جديدة داخل إيران، يرى الأوروبيين ضرورة إحترام بنود الإتفاق النووي خاصة أن وكالة الطاقة النووية تؤكد إلتزام طهران بكافة البنود ، ويصر الأوروبيون حتى الآن على أن رغبة الأمريكيين في تعديل بعض بنود الإتفاق أو إلغائه بالكامل لا يلزمهم في شيء وأن إمتناع الإستثمارات الأوربية عن المشاركة في إيران سوف يضر بمصالح أوروبا في سوق نشيطة متنوعة المشروعات يتسابق الجميع على الفوز بمشروعاتها، وقبل بضعة أسابيع وقعت توتال الفرنسية بالإشتراك مع الصين عقداً قيمته 9 بلايين دولار مع طهران على تطوير حقل غاز فارس الجنوبي على مدى عشرين عاماً، وهو أول إتفاق ضخم توقعه إيران مع دولة أوروبية بعد توقيع الإتفاق النووي ورفع العقوبات الإقتصادية بما أثار شهية باقي الدول الأوربية للدخول إلى السوق الإيرانية عكس ما يريده الأمريكيون !
وبينما يرى الأمريكيون أن تدفق الإستثمارات الأوربية على إيران بهذه الصورة المتعجلة يمثل مكافأة غير مستحقة لإيران التي لا تزال تصر على تطوير برامجها الصاروخية ولا تنفذ بنود الإتفاق النووي بالدقة الواجبة ، يعتقد الأوروبيون أن إنهاء عزلة إيران ومحاولة دمجها في المجتمع الدولي والمشاركة في جهودها التنموية يمكن أن يضاعف من قوة تيار الإصلاحيين داخل الحوزة الحاكمة الذي يمثله الرئيس «حسن روحاني» على حساب تيار المحافظين الذي تؤكد شواهد عديدة أنه يزداد ضعفاً بعد أن وضح عجزه عن إنجاح مرشحه في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة ، رغم مساندة الحرس الثوري وأجهزة الأمن والإعلام والمخابرات إضافة إلى مباركة المرشد الأعلى «خامنئي» ! .. ، وبالطبع ينحاز الأوروبيون إلى ضرورة الإلتزام بالإتفاق النووي بصرف النظر عن وجهة نظر الأمريكيين وموقفهم المتردد من الإتفاق!
وبرغم إتساع مساحة الخلاف بين الموقفين الأمريكي والأوروبي حول القضايا الأساسية الأربعة المتعلقة بالدفاع والتجارة والمناخ وإتفاق إيران النووي بما يزيد من قسمة العالم، لا يزال الغربيون يبذلون جهوداً كبيرة لترميم هذه الخلافات ومحاولة علاج أسبابها، ويتوافقون على ضرورة تجنب صدام المصالح بين الإتحاد الأوروبي وأمريكا ، والحفاظ على الحد الأدني من علاقات التعاون والتنسيق المشترك مع ضرورة استمرار الحوار حول هذه المشكلات أملاً في تضييق مساحة الخلاف خاصة في قضايا الأمن والدفاع من خلال زيادة موازنات دفاع الدول الأوروبية ورفع قيمة إسهامها في موازنة حلف الأطلنطي ، كما يتوافقون في قضايا التجارة الدولية على أن تغييرات مهمة لابد أن تلحق باليلبرالية الاقتصادية توازن بين ضرورات تعزيز التعاون الدولي والحفاظ على أسس العولمة وإصلاح شروطها وبنودها بدلاً من إنكارها وعدم الإضرار بالمصالح الوطنية الأساسية المتمثلة في الحفاظ على الأمن وأولوية السكان الأصليين في الحصول على فرص العمل تحت الضغوط المتزايدة لمخاطر الهجرة القادمة من الجنوب ، وتأثيرها على الأوضاع الأمنية في البلاد ونسب البطالة بين السكان الوطنيين خاصة أن المهاجرين القادمين من الجنوب يقبلون أجوراً أقل بما يعطيهم أولوية خاصة في الحصول على فرص العمل على حساب السكان الوطنيين !
وكما تفكر دول جنوب أوروبا خاصة إيطاليا في تضييق عمليات الإنقاذ التى تتم فى البحر الأبيض لمواجهة الأعداد المتزايدة من المهاجرين الذين يغامرون بركوب قوارب متهالكة من الساحل الليبى غالباً ما تغرق بركابها عرض المتوسط ، تحاول الإدارة الأمريكية التضييق على الهجرة بوسائل وإجراءات أخرى ، أهمها فرض شروط تعجيزية صارمة تمنع دخول القادمين الجدد من دول إسلامية وبناء حائط ضخم بطول حدود المكسيك مع الولايات المتحدة لمنع المهاجرين من أمريكا اللاتينية!.
وفى قضية المناخ التى تشكل واحداً من أهم أسباب الخلاف بين الموقفين الأمريكي والأوربي ثمة جهود جديدة يبذلها الرئيس الفرنسي الشاب «إيمانويل ماكرون» أصغر رؤساء فرنسا على مدى عقود طويلة لإقناع صديقه الجديد ترامب أكبر الرؤساء الأمريكيين الذين دخلوا البيت الأبيض بضرورة أن يتراجع عن موقف الإنسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، بحيث تشارك الولايات المتحدة دول العالم في خفض نسب الإنبعاثات الكربونية لمنع درجة حرارة الكون من الارتفاع إلى حد الخطر، لأن إنسحاب واشنطن من اتفاقية المناخ يمكن أن يقوض التزام الجميع بالحصص المفروضة على كل دولة، بينما يتعلل الرئيس ترامب بأن الإنبعاثات الكربونية التى تطلقها الصين هى الأضخم والأخطر على مصير كوكبنا الأرض يليها الإنبعاثات التى تصدرها الهند، وأن الدولتين تستخدمان الطاقة الحرارية فى معظم مجالات الصناعة دون الإلتزام بخفض نسب التلوث بما يقلل من تكلفة الإنتاج خاصة فى صناعات الحديد التى لا تراعى شروط الحفاظ على البيئة وتحقق للدولتين ميزة تنافسية فى الأسواق على حساب صناعة الحديد فى الولايات المتحدة، ورغم ذلك يعتقد الرئيس الفرنسى أن الآمل كبير فى أن يتراجع ترامب عن موقفه ويعود للإنضمام إلى معاهدة باريس، خاصة أن معظم الشركات الأمريكية الكبرى لا توافق الرئيس ترامب على موقفه ولا تعتقد أن الحل الصحيح هو إنسحاب أمريكا من إتفاقية باريس وأن الحل الصحيح من وجهة نظرها هو المزيد من الإستثمار فى مشروعات الطاقة الجديدة التى تحقق عائداً أكبر .
ومع تشعب أسباب الخلاف الأوروبي الأمريكي وتفاوت خطورة هذه الخلافات على علاقات الطرفين وعلى أمن الشرق الأوسط وإستقراره ثمة ضوء مهم فى نهاية هذا النفق ، يتمثل فى توحد مواقف الأوربيين والأمريكيين على أن الإرهاب هو الخطر الأكبر الذى يهدد الشرق الأوسط والعالم أجمع ويلزم المجتمع الدولى بأكمله ضرورة الإصطفاف فى جبهة واحدة قوية تستطيع حصاره وتصفيته ، كما يلزمه إتخاذ كافة الإجراءات التى تجفف منابع تمويله وتتعقبها وتعاقبها إلى أن يمتنع الجميع بصورة مطلقة ، لأن الحرب على الإرهاب والسكوت على مصادر تمويله متناقضان أساسيان يستحيل اجتماعهما لأن اجتماعهما يجعل من هذه الحرب عملاً بلا معنى تماماً مثل محاولة الحرث فى البحر !
صحيح أن هناك بعض الدول الأوروبية لا تزال تمسك العصا من نصفها حرصاً على مصالح ضيقة بعد أن تم ضبط قطر متلبسة بجرائم تدمير سوريا وليبيا ومحاولة تدمير مصر وشق الصف الوطنى فى السعودية وإثارة الفتن الطائفية فى البحرين وتشجيع قيام تنظيمات سرية لجماعة الإخوان فى دولة الإمارات ، لكن الصحيح أيضاً أن موقف هذه الدول جد ضعيف أمام إجماع الرأى العام العالمى والشعوب كافة على أن الإرهاب هو الخطر الحالى الذى يهدد عالمنا بما يملي على الجميع ضرورة التكاتف من أجل هزيمته وإجتثاث جذوره ، والأمر المؤكد أن توحد الموقفين الأوربي والأمريكي على ضرورة إجتثاث جذور الإرهاب يتيح فرصاً واسعة للدول المتضررة من الإرهاب خاصة مصر أن ترفع صوتها عالياً فى الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية تطالب بعقاب كل من يمد الإرهاب باى من صور العون المادى والمعنوي حتى أن ترتب على هذا الموقف نقل قاعدة العديد الأمريكية من قطر إلى أى مكان آخر كما قال الرئيس ترامب ، لأنه ما لم يتم تجفيف مصادر تمويل جماعات الإرهاب ويساند العالم أجمع المعركة الضخمة التى تخوضها مصر ضد هذه الجماعات فسوف يستمر الإرهاب وربما ينتشر ويقوى ليهدد أمن العالم أجمع وليس فقط منطقة الشرق الأوسط .
بل لعلنى أذهب أبعد من ذلك لأقول أنه لو لم ينكسر الإرهاب على صخرة مصر وينال على أرضها هزيمة منكرة فلن يتمكن العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً من النجاة من خطر الإرهاب ! .. ، وهذا ليس نوعاً من الشيفونية الوطنية ولكنها الحقيقة المؤكدة التى تفرضها عبقرية المكان المصري التى تتبلور فى أخطر نقطة لوجوستية هى مفترق كل الطرق وكل القارات في العالم أجمع ، تريد جماعات الإرهاب من كل ملة إبتداء من داعش إلى القاعدة إلى جماعة الإخوان السيطرة عليها لأن السيطرة عليها لا قدر الله يعنى سقوط الشرق الأوسط بأكمله فى ربقة جماعات الإرهاب بما يمكن هذه الجماعات من السيطرة على حجم هائل من القدرات والثروات الطائلة تمكنها من زعزعة أمن العالم وإستقراره ، شمالاً ابتداء من البحر الأبيض وصولاً إلى الأمن الأوروبي وأمن الولايات المتحدة وجنوباً من البحر الأحمر إلى باب المندب الخانق الذى يحكم التجارة الدولية جنوباً وصولاً إلى الصين .
أرسل تعليقك