أعتقد أنه آن أوان أن تبدأ مصر مسيرة إصلاح نظامها التعليمى بشقيه العام والفنى بعد ان تأخرت كثيرا فى هذه المهمة إلى حد باعد كثيرا بين الواقع الراهن والحلم الذى رسمه الدستور المصرى لأهداف التعليم بشقيه،بحيث يكون متاحا للجميع دون تمييز وفى اطار مؤسسى كفء، ومستدام، وبمستوى لائق من الجودة يوافق النظم العالمية، يستهدف بناء المواطن المستنير القادر على التفكير والنقد والابداع والابتكار، ويحسن التعامل مع تكنولوجيات عصر جديد،وبين الواقع الفعلى للتعليم فى مصر الذى لايزال يقوم على الحفظ والاستظهار، ويعانى من كثافة اعداد التلاميذ فى الفصول إلى حد يجاوز 80 تلميذا، كما يعانى من غياب الانضباط إلى حد يهدر دور المدرسة المصرية،فضلا عن تخلف مناهج الدراسة التى لاترقى إلى أحتياجات العصر ومطالب السوق، وتسهم مخرجاته فى زيادة حدة بطالة المتعلمين لغياب التوازن بين أعداد خريجى الكليات النظرية التى تنتج فائضا كبيرا يزيد على حاجة السوق، وأعداد العلميين والفنيين من خريجى الكليات العملية ومعاهد التعليم الفني، الذين لاتلبى أعدادهم أحتياجات المجتمع خاصة فى بعض التخصصات الحاكمة التى تشكل عصب العملية الانتاجية.
ولعل الحوار المجتمعى الشامل الذى بدأته وزارة التربية والتعليم حول تطوير واصلاح نظم التعليم فى مصر بانعقاد مؤتمر موسع ضم مئات الخبراء والمستشارين والمعنيين بقضايا التعليم، يكون بداية لجهد مخطط مستدام يصل بمستوى الخدمات التعليمية إلى حدود المعايير الدولية، لأنه ما من طريق آخر يمكن ان يساعد مصر على أن تكون ضمن مجموعة الدول الناهضة التى نجحت فى إحداث تغيير شامل فى حياتها إلا من خلال إصلاح نظامها التعليمي!.
وعندما نتحدث عن التعليم العام، فاننا نتحدث فى الحقيقة عن 47 ألف مدرسة حكومية تستوعب أكثر من 18مليون طالب، إضافة إلى 6 آلاف مدرسة تتبع التعليم الخاص تستوعب مليون طالب يمثلون 9% من طلاب التعليم العام..،ومع الآسف فان نسبة المؤسسات التعليمية الحاصلة على شهادات ضمان الجودة لاتصل من بين هذه الاعداد الضخمة لاكثرمن 5% فقط، بما جعل ترتيب مصر فى مؤشرات جودة التعليم يتراجع إلى 144 من 190دولة، مع نسبة أمية تصل إلى حدود 24%، إضافة إلى تزايد نسب التسرب من التعليم العام التى تصل إلى حدود 6%.
جزء من أسباب الإخفاق يعود إلى النقص الحاد فى أعداد المدرسين قياسا إلى اعداد الطلاب المتزايدة، وتدهور ثقة المجتمع فى مؤسسات التعليم العام،وانهيار البنية الأساسية لمعظم المدارس الحكومية، وضعف نظم التقويم والمتابعة والمراقبة، والقصور الواضح فى تطبيق احكام قانون التعليم بصرامة وحزم.
ولست أظن ان اصلاح التعليم مهمة صعبة او مستحيلة، لأنه قبل عدة عقود قليلة كان مستوى التعليم فى مصر ينافس مستويات التعليم فى الدول المتقدمة، وكانت الثانوية العامة المصرية جواز مرور صالح إلى أرقى الجامعات العالمية، وكانت المدرسة المصرية أشد أنضباطا، وكانت قيمة المدرس تصل إلى حد التبجيل لان المعلم يكاد يكون رسولا..،ولست مع هؤلاء الذين يعتقدون ان صيحة د.طه حسين (التعليم كالماء والهواء) وجهود حزب الوفد فى أربعينيات القرن الماضى لإتاحة التعليم لكل فئات الشعب المصرى هو سبب المشكلة التى نعيشها الان!، لان التعليم حق اساسى من حقوق المواطن لابد ان تكفله الدولة لكل مواطنيها دون تمييز وان ترقى بإمكانياته إلى الحد الذى يمكنه من تحقيق أهدافه وتوفر له الحد المعقول من المتطلبات، وترفع نسب الانفاق عليه إلى الحد الذى أقره الدستور المصرى بحيث لايقل عن 5% عن الناتج الوطنى العام، ترتفع إلى 8% على نحو متدرج.
وبدون ان يكون الانفاق على التعليم اولوية مطلقة، يصعب بل يستحيل احداث التطوير المطلوب، لانه فى ظل الموازنات الراهنة لايكاد يصل حجم الانفاق على التعليم فى مصر إلى حدود 3% من الناتج الوطنى الاجمالى تساوى 94 مليار جنيه، يذهب 67مليارا منها إلى التعليم العام والفنى بمتوسط 340دولارا للطالب الواحدبينما يتحصل التعليم الجامعى على 19مليارا..،وما من شك ان ضيق الموازنات يشكل احد اسباب انهيار التعليم العام والفنى لانه مع استمرار شح الموازنات غاب النشاط المدرسى الذى يمثل اول عناصر جذب التلاميذ للمدرسة، وانعدمت صيانة المدارس التى ضاقت باعداد الطلاب المتزايدين، ووضح عجز الدولة عن ان توفر لاطفالها حق الاستيعاب فى مدارس رياض الاطفال متى بلغوا الخامسة واصبح هذا الحق وقفا على الاصدقاء والمعارف واصحاب الحظوظ، وفقد المدرس حوافزه على الحفاظ على رسالته وانغمس فى الدروس الخصوصية بحثا عن تحسين ظروف حياته على حساب رسالته فى المدرسة،وربما يحق لنا القول بان رفع موازنات التعليم والارتقاء بنسبها إلى الناتج الوطنى العام إلى حدود 5% يكاد يكون شرطا اساسيا بدونه يصعب ان تتحقق اهداف الاصلاح، ومن المفارقات المؤلمة ان ينفق المصريون وفق أقل التقديرات مايزيد على عشرات المليارات من الجنيهات على الدروس الخصوصية والتعليم الموازى كان يمكن لنصف قيمتها أن تمكن التعليم المصرى من الحفاظ على رسالته.
ولايعنى ذلك ان تتأخر مسيرة الاصلاح إلى ان تتمكن الدولة من تحسين موازنات التعليم العام والفني، لان جزءا مهما من واجبات الحكم الرشيد ان يحسن استثمار الامكانات المتاحة إلى الحد الاقصى ويحافظ عليها وينميها قدر استطاعته، ويسد ثغرات التسيب والاهمال التى تستنزف الكثير من الطاقة وتتسبب فى فاقد ضخم..، والوجبات هنا كثيرة وضرورية، لعل اهمها فرض الانضباط على المدارس بتطبيق قانون التعليم العام الذى يلزم التلميذ بحضور 85% من ايام الدراسة على نحو حاسم، وإلا كان عليه ان يمارس تعلمه من منازلهم،وإعادة النظر فى برامج تدريس اللغات الاجنبية التى انهارت لضمان تحسين القدرات اللغوية لتلاميذ المدرستين الاعدادية والثانوية، وحتمية الاهتمام بمناهج دراسة الرياضيات والفيزياء وعلوم الحاسبات الالكترونية التى تشكل عصب التقدم العلمى للمجتمع، وتوحيد سن القبول فى جميع المدارس، وقبل ذلك كله تجريم الدروس الخصوصية واغلاق مؤسسات التعليم الموازى أو إلزامها اعادة تقنين أوضاعها بما يمكنها من الانطواء تحت لواء التعليم الخاص، شريطة ان تلتزم بكل الشروط والمواصفات والأحكام التى تضمن صلاحية مبنى المدرسة وتوافر هيئات التدريس، والالتزام بضوابط قانون التعليم.
ولا يقل اهمية عن ذلك اعادة النشاط المدرسى ودعم الانشطة التعليمية، وتوفير الادوات والملابس والاجهزة والامكانات لفرق الرياضة المختلفة،والاهتمام بنوادى العلوم وجمعيات الخطابة والمسرح والشعر والمكتبة، لأن الانشطة المدرسية تشكل اول عوامل جذب التلاميذ التى تشجعهم على الحضور إلى المدرسة، كما ان مدرسة ينعدم فيها النشاط المدرسى وتفتقد إلى الفناء المدرسى لايمكن ان يصدق عليها المفهوم الصحيح للمدرسة كمؤسسة تعليمية وتربوية تنمى قدرات الطالب ومهاراته وتسهم فى تكوينه واكتمال شخصيته.
وبرغم الظلال الكثيفة فى صورة التعليم المصرى بشقيه العام والفني، ثمة جهود لايمكن انكارها جرت على امتداد العقدين الاخيرين رفعت معدل القيد الاجمالى فى جميع مدارس مصر فى حدود 5% سنويا لتصل الآن إلى حدود 80% من الشريحة العمرية، وحددت هدفا استراتيجيا ملزما يؤكد على ضرورة توفير خدمة التعليم الابتدائى وبصورة جيدة لجميع الاطفال فى السن الابتدائى بحيث يصل معدل القيد إلى 98%مع استيفاء جميع احتياجات المدارس من المدرسيين، وخفض كثافة الفصول فى التعليم الاعدادى إلى 42 تلميذا فى الفصل، وتقليص عدد المدارس التى تعمل بنظام الفترات إلى الحد الادني، والقضاء على ظاهرة الغش، وتحقيق الانضباط المدرسى من خلال تطبيق قانون التعليم، والزام كل الطلاب بمن فيهم طلاب الثانوية العامة ضرورة الالتزام بنسب الحضور، وتمكين كل طلاب الثانوية العامة من الحصول على جهاز (تابلت) إضافة إلى توفير التغذية المدرسية لكافة الفئات التعليمية بعدد اجمالى يتجاوز 13مليون طالب فى جميع المراحل الدراسية وبتكلفة تقرب من مليار جنيه تزيد سنويا بمعدل يصل إلى حدود 10%، مع توظيف تكنولوجيا التعليم والحاسب الالكترونى وخدمة الانترنت فائق السرعة لاكثر من الف مدرسة.
ومع عظم تحديات التعليم العام وكثرة مشكلاته وتقادمها، تظل قضية التعليم الفنى حجر الزاوية الرئيسى فى اى مشروع تنموى يستهدف النهوض بمصر، إلى حد ان الكثرة الغالبة من المهتمين بهذه القضية يرون ضرورة وجود وزارة للتعليم الفنى تنهض بمشروعات تحديثه وتطويره، وتعالج التشوه والنقص الفادح فى هرم قوة العمل المصرية الذى يشكو من غياب العديد من التخصصات المهنية والفنية التى يحتاجها سوق العمل، وتتطلبها العملية الانتاجية التى تعتمد الآن على تكنولوجيات متقدمة تتطلب مهارات خاصة.
وبرغم وجود ما يقرب من الفى مدرسة فنية فى مصر تضم ما يقرب من 2مليون طالب، إلا ان واقع الحال يقول ان مشكلة المشاكل فى التعليم الفنى تكمن فى نظرة المجتمع إليه باعتباره مجرد اوعية تعليمية لاستيعاب الفاشلين فى التعليم العام الذين لم يحققوا الحد الادنى من التفوق الدراسى الذى يمكنهم من استكمال تعليمهم إلى المرحلة الجامعية، وان 4% فقط من الملتحقين بالتعليم الفنى هم الحاصلون على نسبة تزيد على 80% فى مرحلة التعليم الاعدادي، كما ان نسبة معتبرة من الملتحقين بالتعليم الفنى هم طلاب التجارة المتوسطة (اكثر من 600الف تلميذ فى 730مدرسة) قياسا على اعداد المدارس الصناعية (843الف طالب فى 5 آلالف مدرسة) وطلاب المدارس الزراعية (232الف طالب فى 230مدرسة)..، واظن أن الحديث عن هذا العدد الضخم من طلاب المدارس التجارية المتوسطة باعتبارهم فنيين يمثل نوعا من الضحك على الذقون رغم تحويل عدد من هذه المدارس إلى مدارس فندقية لتخريج فنيين للعمل فى الفنادق.
لكن الحقيقة الاهم فى التعليم الفنى ان ما يقرب من 70% من خريجيه يجدون دون تأخير فرص العمل فور تخرجهم، وبعضهم يحصل على أجور عالية تزيد على أجور خريجى الجامعات،ومع ذلك يشكو الكثيرون من نظرة المجتمع الدونية إلى خريجى التعليم الفني!،وهى نظرة تحتاج إلى تغيير ثقافى فى مفاهيم المجتمع، لكن ما من شك ان رفع أجور خريجى التعليم الفنى يساعدهم على تحسين مراكزهم الاجتماعية.
وتخلص تحديات التعليم الفنى فى مصر فى ندرة المعلمين فى بعض التخصصات المهنية الجديدة، وضعف نظم التقويم والمتابعة والمراقبة، والانفصال الكامل بين مناهج الدراسة ومؤسسات الانتاج الصناعى والزراعي، وغياب معايير الجودة التى ترقى بمستويات الخريجين إلى المستويات العالمية، وضعف كفاءة الجهاز الفنى المشرف على هذه المدارس،لانه فى اطار دراسة أعلنت نتائجها فى الحوار المجتمعى الشامل حول تطوير واصلاح التعليم، تاكد انه من بين 20مدير مدرسة فنية يوجد مدير واحد هو الذى يملك قدرة الادارة الصحيحة وتحقيق الانضباط فى مدرسته،فضلا عن قلة الموارد وارتفاع تكاليف تجهيز المدرسة الفنية بالورش والالات والخامات التى لاتزيد قيمتها على 30 جنيها لكل طالب مطلوب رفعها إلى مائة جنيه.
غير أن اخطر المشاكل واهمها هى الانقطاع شبه الكامل بين المؤسسة التعليمية الفنية والمصنع والورشة، وقلة فرص تدريب الطلاب فى بيئة العمل وداخل عنابر الانتاج، فضلا عن غياب حماس معظم اصحاب الاعمال لمشروعات نقل المدرسة الفنية إلى داخل المصنع، وعدم مشاركة خبراء الصناعة فى تقويم خريجى هذه المدارس وتجديد مناهجها، الامر الذى ادى إلى غياب الربط بين خطط التعليم الفنى وسوق العمل وخرائط الصناعة ومراكز الانتاج على ارض الواقع، فضلا عن جمود برامج التعليم الفنى فى الوقت الذى تتسارع فيه عمليات تحديث تكنولوجيا الانتاج بما يزيد من حجم الفجوة بين المنهج الدارسى المكتوب والواقع الفعلى فى عنابر الانتاج!.
صحيح ان جهود التعليم الفنى فى مصر أفرزت خلال العقد الاخير عددا من التجارب المهمة تمثلت فى مدارس فنية جديدة تقام داخل بيئة العمل بما يجعل المدرسة الفنية جزءا من المصنع، كما هى حال المدرسة الفنية النووية المزمع انشاؤها فى الضبعة ضمن المحطة النووية، والمدارس الفنية اللوجستية فى بورسعيد والسويس فى اطار مشروع محور القناة، والمدرسة الفنية للبتروكيماويات الملحقة بمصانع البتروكماويات فى السويس،والمدرسة الفنية للطاقة المتجددة سواء طاقة الشمس او الرياح لتخريج فنيين يصنعون ويقومون بصيانة اجهزة وخلايا تخزين هذه الانواع الجديدة من الطاقة، لكن هذه المدارس التى لايزال بعضها حتى الآن تحت الانشاء تكاد تكون جزرا منعزلة عن نظم التعليم الفنى التى تدير ما يقرب من الفى مدرسة تتبع التعليم الصناعى والزراعى والتجاري، تعانى من غياب تحديث المناهج وتطوير المعامل، كما تعانى من جمود البرامج وغياب المشرفين والمعلمين فى كثير من الاختصاصات المهنية الحديثة، بما يؤكد حاجة مصر إلى نظرة جديدة للتعليم الفنى تدرك خطورته على مستقبل مصر وضرورته لقضية تحديث الانتاج، واهميته الكبرى فى اصلاح هرم العمالة الذى يكاد يختنق لغياب هذه الفئة الوسطى من الفنيين الذين يشكلون عصب العملية الانتاجية الحديثة.
أرسل تعليقك