بقلم :مكرم محمد أحمد
يتعرض تنظيم «داعش» لهزائم متكررة فى الفترة الأخيرة، بلغت أوجها فى عملية استعادة مدينة تدمر الأثرية، ونجاح القوات السورية فى دخول المدينة والسيطرة على قلعة تدمر، وطرد كافة قوات «داعش»، فى عملية ناجحة أشاد المراقبون بحسن تخطيطها ودقة التنسيق بين القوات السورية البرية والقوات الجوية الروسية.
حدث ذلك فى الوقت الذى تواصل فيه قوات الجيش العراقى المدعومة جواً بطائرات التحالف الغربى تحرير القرى المحيطة بالموصل، تمهيداً لتحرير المدينة التى نجح «داعش» فى احتلالها عام 2014 لتحقق نصراً عسكرياً وسياسياً ضخماً، مكن رئيس «داعش» أبوبكر البغدادى من أن يعلن نفسه أميراً للمسلمين من فوق منبر جامعها الكبير!
ومكن «داعش» من الحصول على كميات ضخمة من أسلحة ومعدات الجيش العراقي الذى لم يصمد فى المعركة لخلل خطير فى بنية تشكيله الطائفى ونقص حاد فى مهاراته القتالية.
وما يزيد من قيمة ما تحقق على الجبهتين السورية والعراقية، أن النصر الكبير الذى حققته القوات السورية بدخولها تدمر، وانطلاق عملية تحرير الموصل توجا سلسلة من العمليات العسكرية الناجحة على الجبهتين، فقدت «داعش» بسببها جزءاً كبيراً من الأراضى التى كانت تحتلها فى العراق تغطى مساحة ثلاث محافظات عراقية تم تحريرها، هى صلاح الدين وديالى والأنبار، كما فقدت «داعش» السيطرة على مدن الرمادى وتكريت وبيجى، حيث توجد أضخم مصفاة بترول فى العراق نجحت «داعش» فى احتلالها واستثمارها لأكثر من عام، إضافة إلى جبل سنجار، كما فقدت «داعش» مساحات هائلة من الأراضى التى كانت تحتلها فى سوريا، يعتقد المراقبون أنها تتجاوز أربعة آلاف ميل مربع، إضافة إلى عدد من المدن السورية ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى، أبرزها كوبانى على الحدود السورية التركية التى تمكن المقاتلون الأكراد من تحريرها، ومناطق واسعة من ريف حلب وإدلب، كما تم طرد قواتها من مدينة حمص وسط سوريا بعد أن سلمت المدينة القديمة لقوات الجيش السورى، إضافة إلى خسارتها لعدد من المناطق الاستراتيجية فى منطقة الغوطة التى كانت تحاصر العاصمة دمشق، وذلك يعنى أن النصر الذى تحقق على الجبهتين السورية والعراقية نصر استراتيجى، أثر بالسلب على قدرة «داعش» العسكرية وأضعف بنيتها التنظيمية والقتالية، دلالة ذلك المؤكدة أن «داعش» لم تستطع على امتداد الشهور الأخيرة أن تشن هجوماً مضاداً واحداً ناجحاً يمكنها من استعادة بعض المواقع والأراضى التى فقدتها، وتعانى من حالة انحسار وتراجع مستمر.
ويكشف تقرير ميدانى لمراقبين عسكرين أمريكيين يتابعون المعارك التى تجرى فى العراق، عن ضعف الروح المعنوية لقيادات «داعش» العسكرية التى يجرى تصفيتها على نحو منتظم، بمعدل قيادة مهمة كل ثلاثة أيام، من خلال غارات جوية تقوم بها الطائرات بدون طيار، آخرها عملية تصفية وزير الحرب عمر الشيشانى، فضلاً عن هرب جنودها من المواقع الأمامية وعدم إطاعتهم الأوامر، وفى عملية تحرير القرى والبلدات الصغيرة فى محيط مدينة الموصل كانت المفاجأة هروب مقاتلى «داعش» قبل دخول قوات الجيش العراقى بما يؤكد عزوف مقاتليها المتزايد عن القتال.
والأخطر من ذلك أن نجاح القوات العراقية المدعومة جواً بقوات التحالف الغربى فى السيطرة على منطقة مخمور جنوب الموصل التى تحولت إلى قاعدة ضخمة تحتشد فيها القوات البرية العراقية تساندها قوات الحشد الشيعى والبشمرجة الكردية، ونجاح القوات البرية السورية فى تعزيز مواقعها العسكرية على كافة جبهات القتال، سوف يفتح آفاقاً جديدة تعزز قدرة الجيش العراقى على استكمال مهمة تحرير الأراضى العراقية فى بعض محافظات العراق إضافة إلى نينوى، بعد أن تمت استعادة صلاح الدين وديالى والأنبار، كما أن نجاح القوات السورية فى السيطرة على مدينة تدمر سوف يمكنها من قطع طريق الإمدادات الرئيسى الذى يصل إلى مدينة الرقة عاصمة «داعش» كما يصل أيضاً إلى محافظة دير الزور التى لا تزال «داعش» تسيطر على معظم أراضيها، ولا تواجه عملية تحرير الموصل مصاعب ضخمة، باستثناء حرص «داعش» على أن تستخدم السكان دروعاً بشرية تمكن جنودها من الهرب، أما تحرير مدينة الرقة فلا يواجه أى مشاكل تعوق الإسناد الجوى أو تعطل عملية التحرير.
ويزيد من حرج «داعش» وصعوبة موقفه الراهن، أنه فقد أهم مصادر تمويله بفقدانه مصفاة البترول العراقية فى مدينة بيجى وبعض حقول النفط العراقى، إضافة إلى حقول النفط السورى فى منطقتى دير الزور والحسكة، الأمر الذى أدى إلى وقف نشاط «داعش» فى بيع البترول إلى تركيا، فضلاً عن العديد من القيود التى تفرضها الآن الدول الأوروبية على وصول المقاتلين إلى سوريا عبر الحدود التركية، بما يعنى أن «داعش» تعتمد الآن على مخزون من الرجال والأموال جفت مصادره، وربما لهذه الأسباب تخطط «داعش» منذ فترة لتعزيز سيطرتها على ليبيا على أمل أن تجد فى ليبيا قاعدة جديدة لعملياتها، حيث يوجد لها الآن ما يقرب من ستة آلاف مقاتل، يتمركز أغلبهم فى مدن سرت ودرنة وصبراتة.
لكن قصة «داعش» فى العراق وسوريا تكشف عن حقائق مهمة وخطيرة، أولها أن ظهور «داعش» وتضخم حجمها ودورها على هذه النحو المذهل لم يكن محض صدفة بل كان عملاً مخططاً ومدروساً، يستهدف تقنين سيطرة الاحتلال الأمريكى للعراق، وخلق فزاعة تهدد أمن العرب، وساعد على ذلك استراتيجية أوباما الذى قلل منذ البداية من مخاطر «داعش» ولم يفطن إلى أهميتها إلا بعد سقوط مدينة الموصل، مؤكداً إمكان احتوائها من خلال بعض عمليات القصف الجوى، ورفضه تغيير هذه الاستراتيجية رغم فشلها الذريع بعد أن ضربت «داعش» باريس وبروكسل.
وثانيها أن سيطرة «داعش» على هذه المساحات الشاسعة من الأراضى كان يمكن أن تستمر فترة زمنية أطول، لولا أن فطن الروس لضرورة تدخلهم العسكرى فى سوريا لحماية الأمن الروسى من مجموعات الإرهاب الشيشانية التى اعتبرت المعركة فى سوريا جزءاً من حربها على الروس، ولإنقاذ نظام بشار الأسد الذى كان آيلاً للسقوط، حفاظاً على الوجود العسكرى الروسى شرق المتوسط وقاعدته العسكرية والبحرية فى اللاذقية، وما من شك أن نجاح الروس فى مواجهة جماعات الإرهاب فى سوريا حفز العراقيين على التبرم من تلكؤ واشنطن فى عملية تحرير أراضى العراق إلى حد التهديد بدعوة الروس إلى التدخل العسكرى فى العراق.
وثالثها تواطؤ أردوغان فى السماح لآلاف المقاتلين القادمين من كل فج أوروبى بالدخول إلى سوريا، فى خطة خبيثة تستهدف دعم «داعش» وإضعاف نظام بشار الأسد، وربما كان المتغير الرئيسى الذى قلب الأوضاع فى سوريا والعراق هو هجرة السوريين المتزايدة إلى أوروبا هرباً من الحرب، التى ألزمت الغرب والأمريكيين ضرورة الإسراع بإنهاء الحرب الأهلية السورية. ولا يعنى كل ذلك أن «داعش» سوف تتبدد هباء منثوراً من تلقاء نفسها، ولكنه يعنى أن مصلحة الغرب والأمريكيين فى الإبقاء على «داعش» واستمرار احتلالها لهذه المساحات الشاسعة من الأراضى قد تقلص كثيراً، نتيجة التدخل العسكرى الروسى فى سوريا، الذى خلق متغيراً جديداً أضعف «داعش» فى سوريا وكشف إمكان هزيمتها، وبات فى قدرة الأوطان العربية دحرها إن نجحت فى تهيئة الحد الأدنى من التضامن العربى دفاعاً عن الأمن والسلم العربيين.
أرسل تعليقك