بقلم - د. وحيد عبدالمجيد
ما أكثرها الثورات الشعبية التى شهدت انعطافات حادة ومثيرة خلال مسارها المتعرج الذى قد يفيد تأمله فى ترشيد الجدل العشوائى حول ثورة 25 يناير فى ذكراها السابعة. ومع ذلك يظل مسار الثورة الفرنسية، التى كانت فاتحة هذا النوع من الثورات، هو الأكثر إثارة حتى اليوم، بما شهده من انعطافات شديدة الحدة.
فقد استمر هذا المسار من 1789 إلى 1870، أى نحو ثمانية عقود كاملة. وكانت الخطوات الارتدادية فيه أكثر وأقوى مقارنة بالخطوات التقدمية، إلى أن بلغ اللحظة التى انعطف فيها إلى الأمام، ولم يرتد مرة أخرى، وباتت الطريق مفتوحة إلى فرنسا التى نعرفها اليوم منذ تأسيس جمهوريتها الثالثة عام 1870.
يعرف كثير منا، عبر كتب التاريخ المدرسية، أن الثورة الفرنسية أنهت الملكية، وأقامت أول جمهورية حديثة فى العالم القديم (أى بعد الولايات المتحدة). ولكن الجمهورية التى أقامتها هذه الثورة عام 1793 لم تكد تدخل عقدها الثانى حتى حوَّلها نابليون بونابرت إلى إمبراطورية عام 1804.
وعندما هُزم فى نهاية حروبه التى امتدت عقداً آخر، كان المجتمع الفرنسى قد أُنهك حتى الثمالة، وفقد الأمل فى التقدم، وصارت معظم فئاته مستعدة لقبول عودة الملكية مُجدَّداً عام 1815. فكان أن دخل لويس الثامن عشر القصر، وكأن شيئاً لم يحدث منذ إعدام جده عام 1793.
واستمرت الملكية العائدة أكثر من ثلاثة عقود تفاقمت المعاناة خلالها، إلى أن انفجر المجتمع مرة أخرى فى ثورة 1848 التى أدت إلى إعلان الجمهورية الثانية. ولا يعرف معظم من يدرسون الكتاب الكلاسيكى المشهور لدى دارسى العلوم السياسية والقانون «الديمقراطية فى أمريكا» أن مؤلفه ألكسى دى توكفيل تولى وزارة الخارجية فى حكومة الجمهورية الثانية التى سقطت بدورها عام 1851, إذ انفرد رئيسها لويس بونابرت بالسلطة ونصَّب نفسه إمبراطوراً كما فعل عمه مع الجمهورية الأولى، وأخذ فرنسا إلى سلسلة حروب أخرى انتهت بهزيمة أمام ألمانيا.
وكان إعلان الجمهورية الثالثة عام 1870، عقب تلك الهزيمة، بمثابة الانعطافة الأخيرة التى مضت فرنسا فى طريق التقدم. وعندما كُتب تاريخ ثورتها الأم بطريقة منهجية، سُجل ما نعرفه عنها اليوم، وهو أنها كانت بداية انتقال أوروبا كلها، وليست فرنسا فقط، إلى التقدم الذى نراه اليوم.
أرسل تعليقك