بقلم _ خالد الدخيل
ذكرت هنا الأسبوع ما قبل الماضي (الأحد 25 آذار(مارس)، 2018)، أن فرضية وائل حلاَق باستحالة أن يكون «الحكم الإسلامي» دولة حديثة تستند في جملتها وتفاصيلها إلى نتيجة مقارنة بين نموذجين مثاليين لكل منهما. ومع أن هذه المقارنة ذكية وغنية، بل ومفيدة أيضاً، يبقى السؤال: هل نتيجة هذه المقارنة –الفرضية- كما هي صحيحة؟ جوابي أنها صحيحة في حالة واحدة، وواحدة فقط، وهي استحالة أن يتحول النموذج المثالي لـ «الحكم الإسلامي» إلى نموذج مثالي للدولة الحديثة، أو العكس. ومصدر الاستحالة أن كلا النموذجين لا وجود لهما على أرض الواقع الذي هو بطبيعته وتكوينه أكثر تعقيداً وتداخلاً من نموذج مثالي نظري. المؤلف محق في كل افتراضاته وتحليلاته، لكن في الحدود التي رسمها لإشكاليته وللمنهج الذي اختاره لمعالجتها.
مفهوم النموذج المثالي في العلوم الاجتماعية أداة منهجية، الهدف منها قياس الواقع إلى المثال لتحديد طبيعة هذا الواقع والخصائص التي يتسم بها، مثلاً إذا أردنا تحديد الطبيعة الإسلامية أو الرأسمالية لنظام سياسي بعينه، يمكن تحقيق ذلك بوضع قائمة بجميع السمات والخصائص التي يتميز بها عن غيره كل من الإسلام والرأسمالية، أو النموذج المثالي لكل منهما، ثم بعد ذلك قياس واقع النظام السياسي المستهدف بسماته وخصائصه، وذلك بمقارنته مع هذا النموذج، وهنا تتوقف فائدة النموذج المثالي. فالمقارنة تكون عادة بين واقع وآخر، وليس بين نماذج مثالية، ولعل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، أكثر من اشتهر ببلورة وتوظيف هذه الأداة المنهجية للنموذج. ومن المعروف أن النموذج المثالي عادة لا وجود له على أرض الواقع، وأنى له أن يكون كذلك والواقع بحكم طبيعته مركب وأكثر تعقيداً بالمقارنة مع مثالية نموذج نظري. قد يقترب واقع الظاهرة أو الدولة من هذا النموذج بهذه الدرجة أو تلك، لكنه لا يمكن أن يتطابق معه، لأن التطابق فيما لو افترضنا حصوله يلغي الواقع والمثال معاً، بحيث يصبح الواقع مثالاً، والمثال واقعاً. وهذا ليس ممكناً، وبالتالي ينحصر الهدف من وراء استخدام النموذج المثالي ليس المقارنة بين نماذج مثالية، وإنما تسهيل المقارنة بين واقع وآخر.
بالعودة إلى كتاب «الدولة المستحيلة» نجد أن الدكتور حلاَق يحاكم واقع الدولة الحديثة إلى نموذجها المثالي، ليخلص من ذلك إلى أن واقع هذه الدولة عاطل، ويقصر عما تقوله عن نفسها، وعما هو مأمول منها وفقاً للنموذج الذي يقال إنها تمثله، بعد ذلك يقارن واقع الدولة الحديثة كما هو مع نموذج مثالي لـ «الحكم الإسلامي»، ليخلص إلى استحالة أن يصبح هذا الأخير دولة حديثة. منطلق الاستحالة هنا ليس تفوق الدولة الحديثة، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل تفوق نموذج الحكم الإسلامي بمنطلقاته الأخلاقية وآلياته القانونية. طبعاً لا يتسع المجال لتناول تفاصيل واستنتاجات هذه المقارنة في الكتاب، لكن إليك مثال مبدأ الفصل بين السلطات في الدولة الأميركية كنموذج للدولة الحديثة. يقول المؤلف عن تطبيق هذا المبدأ في المثال الأميركي، مستنداً إلى آراء خبراء في القانون الدستوري، إنه يتناقض مع المعنى الكامل لمفهوم الفصل، ومع الديموقراطية كهدف لمبدأ الفصل، وللتدليل على ذلك يشير إلى أن عملية التشريع لا تنحصر حقيقة في الكونغرس، وهو الذي -وفقاً للدستور- يمثل السلطة التشريعية. السلطة القضائية تمارس التشريع أيضاً من خلال وظيفتها المنوطة بها بالحكم على بطلان بعض القوانين الدستورية أو التنظيمات الإدارية، استناداً إلى قواعد عدة تبدأ من المصلحة العامة وتنتهي بتعارضها مع نصوص أو مقتضيات الدستور.
السلطة التنفيذية (البيت الأبيض) بدورها تملك سلطة تشريعية من خلال حقها في إصدار أوامر تنفيذية، بناء على ذلك يتساءل المؤلف: إذا كانت السلطة التشريعية تمثل السيادة الشعبية (من خلال الانتخاب)، فلماذا لا تكون هي الجهة الحصرية في الدولة التي تتولى عملية التشريع؟ قد يبدو السؤال مشروعاً، لكن السلطة التنفيذية، وفي مقدمها الرئيس، هي أيضاً منتخبة، وترشيح أعضاء المحكمة العليا (أعلى محكمة في السلطة القضائية) لمناصبهم من قبل الرئيس يتطلب دستورياً موافقة مجلس الشيوخ على هذا الترشيح قبل تعيينهم، ثم أن حصر وظيفة الحكم على دستورية القوانين بالسلطة التشريعية، وفق السؤال السابق، يتعارض مع مبدأ فصل السلطات ذاته، لأنه يقتضي بأن تكون السلطة التشريعية في هذه الحالة هي المُدعي (بضم الميم) والحَكَم (بفتح الحاء والكاف) في الوقت نفسه على دستورية قانون أصدرته هي نفسها. وهو ما قد يتعارض مع مبدأ آخر، وهو رقابة السلطات على بعضها. مؤدى ذلك أن السؤال السابق ينطلق في مشروعيته من نموذج مثالي، وليس من الواقع الاجتماعي والسياسي المركب للمجتمع والدولة معاً، والمتطلبات الدستورية والقانونية لمثل هذا الواقع.
ماذا عن نموذج الحكم الإسلامي؟ وفق المؤلف يتميز هذا الحكم بهدفه الأخلاقي، وبالإطار القانوني المحكم الذي يحمي ويعبر عن هذا الهدف، وإذا كانت الدولة الحديثة هي الهدف النهائي (هدف دنيوي)، وأنها بذاتها الأساس الميتافيزيقي لسيادتها، فإن الجماعة في الحكم الإسلامي ليست كذلك، هي مجرد أداة لهدف أعلى وأعظم (أخروي). لا تملك هذه الجماعة لا سيادة، ولا إرادة سياسية وقانونية مستقلة، لأن الله، والله وحده، هو صاحب السيادة، وفقاً لهذا التعريف النموذجي للجماعة، فإنها تتكون من مؤمنين يقفون أمام الله (صاحب السيادة) متساوون في القيمة بغض النظر عن الموقع الطبقي، أو اللون أو غير ذلك، وعليه فإن أساس وتميز العلاقات الاجتماعية يحدده مضمون الإيمان ونوعيته. في هذا النموذج تأتي الشريعة قبل الدولة، وبالتبعية تأتي الجماعة قبل الدولة أيضاً. بعبارة أخرى، ووفقاً للاستشهاد الذي أخذه حلاَق عن شيرمان جاكسون (أستاذ علوم سياسية أميركي) فإن الدولة «ليست مخزن السلطة الدينية.. وأن الفرد لا يوجد من أجل مصلحة الدولة. وإنما توجد الدولة بهدف تحقيق مصالح الفرد ورعايته، أي أن الفرد يأتي قبل الدولة، والمبرر الوحيد لشرعية الدولة هو تهيئة الظروف لهذا الفرد بأن يعبد الله ويطيعه».
ماذا عن العلاقة بين سلطات الدولة في هذا النموذج؟ الشريعة، وعلى عكس حال الدولة الحديثة، وفق المؤلف هي السلطة التشريعية من دون منازع، لا تملك أي سلطة أخرى ممارسة هذه الوظيفة، لا يستطيع القضاء مثلاً الإسهام في شكل مباشر في عملية التشريع، حتى السلطة التنفيذية لا تملك إلا تفويضاً محدوداً من قبل الشريعة لممارسة التشريع، وفي مجالات محدود أيضاً. (أنظر في شكل خاص الفصل الثالث، من الطبعة الإنكليزية للكتاب، وتحديداً ص 39-52). إلى أي حد ينطبق هذا النموذج على واقع الدولة الإسلامية عبر التاريخ؟ سؤال أتركه للمختصين في الشريعة وتاريخها.
مهما يكن فإنه لا يمكن قولبة الإنسان، بما في ذلك الإنسان المسلم، داخل نموذج مثالي. صحيح أن المسلم يؤمن في شكل نهائي بأن السيادة على الكون، وبالتالي على المجتمع والدولة معاً، إنما تعود لله وحده، الخالق الرازق. وأن هذه السيادة هي مرجعيته. والواقع أن لهذا الإنسان مرجعية، أو مرجعيات أخرى دنيوية قد تتكامل مع المرجعية الأولى، وقد تتناقض معها أيضاً. من بين هذه المرجعيات في حالة الفرد تبرز المصلحة وحب الذات. وفي حالة الدولة والجماعة المصلحة السياسية التي قلما تتنافس معها مرجعية أخرى. في الحالة الإسلامية يكفي مقارنة دولة الخلافة مثلاً (وهي دولة يجمع المسلمون على نموذجيتها) وما انتهت إليه، مع حال لدول الإسلامية التي تعاقبت بعد ذلك ابتداءً من الدولة الأموية حتى وقتنا الحاضر، جميع هذه الدول تنطلق من الإيمان بمرجعية أن السيادة في آخر المطاف هي لله، لكن الواقع السياسي لكل منها، بما في ذلك حجم سلطتها التنفيذية، وعلاقة هذه بالسلطتين الأخريين، كثيراً ما يتناقض مع هذا المنطلق، ومع بعضها الآخر، وآخر الأمثلة ما يحصل في العراق وسورية مثلا في أيامنا هذه.
في كتاب «الدولة المستحيلة» يتداخل النموذج المثالي مع الواقع، وهو تداخل تكشف عنه الفرضية المركزية ذاتها للكتاب، فالاستحالة التي تقول بها هذه الفرضية تتعلق حصرياً بالنموذج المثالي، وهو نموذج مغلق ليس له إلا إمكانية واحدة هي أنه يستحيل تجسده على أرض الواقع، في حين هذا الواقع حالة تاريخية، مفتوح، بحكم طبيعته، على إمكانيات كثيرة، والسؤال الذي ليس هناك إجابة له: لماذا لم تكن المقارنة بين الواقع التاريخي لكل من الدولة الإسلامية والدولة الحديثة، بدلاً من حصرها بين النموذج المثالي لكل منهما.
أرسل تعليقك