بقلم/خالد الدخيل
أدخل في الموضوع مباشرة، وصلتني عبر تطبيق «واتساب» مقالة للأستاذ معن بشور بعنوان «لماذا التحامل المستمر على القوميين العرب»؟ وبالبحث وجدت أنها منشورة في أكثر من موقع، يقول معن إنه حاول نشر رد على مقالة لي سابقة في صحيفة «الحياة»، لكن الصحيفة رفضت ذلك، ما اضطره لنشر مقالته الأخيرة في مكان آخر، أنا لا أعرف شيئاً عن هذا.
في مقالته يتناول الكاتب رأيي حول القوميين العرب وموقفهم من إيران، وبما أن معن ناشط قومي معروف ويرى في ما كتبته تحاملاً لا مبرر له، يقتضي الأمر إلقاء نظرة على مجادلته هذه.
قدم الأستاذ بشور اعتراضاته واستدراكاته بأسلوب مهذب، واضح ومباشر، وهو ما يحسب له، إلا أنه من حيث المضمون أكد في ما سطره ما ذهبت إليه. هو يرى أنني لجأت إلى التعميم في تشويه صورة القوميين العرب، لذلك أضع هنا قوله بالنص، وهو الناشط القومي، عن رؤية هؤلاء، كما يقررها هو، للعلاقة مع إيران. يقول: «إن موقف غالبية القوميين العرب، وخصوصاً من التقى منهم في إطار هيئة جامعة باسم (المؤتمر القومي العربي) من العلاقات العربية - الإيرانية يقوم على معادلة بسيطة، وهي أن إيران تشكل عمقاً استراتيجياً وحضارياً للأمة العربية، كما أن القادة الإيرانيين مدعوون إلى إدراك جملة الهواجس والالتباسات الموجودة عند غالبية أبناء الأمة العربية من المواقف الإيرانية تجاه بعض القضايا العربية، لا سيما في العراق والجزر الإماراتية الثلاث، بل تجاه بعض التصريحات الصادرة عن مسؤولين في طهران مثل أن (بغداد عاصمة الإمبراطورية الفارسية) وأن (طهران تتحكم اليوم بأربع عواصم عربية) و (أن البحرين فارسية) إلخ…».
هذه رؤية ملتبسة تخلط بين ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن فعلاً، هل صحيح أن إيران تشكل في واقع الحال عمقاً «استراتيجياً وحضارياً للأمة العربية»؟ قبل الإجابة لا بد من التنويه بأنني عندما أستخدم اسم إيران، إنما أعني بذلك تحديداً نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو جمهورية ولاية الفقيه، وليس المجتمع أو الأمة الإيرانية، كان ينبغي لإيران أن تكون هذا العمق، وأن يكون العرب في المقابل عمقاً استراتيجياً لها، لكنها في واقع الحال لم تكن كذلك، لا قبل الثورة ولا بعدها، أول موانع ذلك أنها تحكم بنظام سياسي مؤسس على الطائفية، وهذا ما يقوله دستور «الجمهورية الإسلامية» وفقاً للمادة 12 التي تنص على أن «الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الإثني عشري، وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد». لعله من الواضح أن هذه المادة تختزل الدين في المذهب، تتكامل المادة 72 مع المادة السابقة من حيث إنها تحظر على مجلس الشورى سن قوانين مغايرة لقواعد وأحكام المذهب الرسمي للدولة، (وليس الإسلام قبل وبعد مرحلة المذاهب). (راجع مواد أخرى بما في ذلك المادة 115). معنى ذلك أن إيران تحدد هويتها المذهبية بنصوص دستورية ملزمة، وهذه سابقة في التاريخ الإسلامي، وعلى قاعدة أن السياسة الخارجية للدولة امتداد لسياستها الداخلية، تتعامل إيران مع الدول العربية من هذه الزاوية المذهبية قبل أي شيء آخر، ولأنها كذلك ترتكز تحالفاتها في المنطقة على ما بات يعرف بتحالف الأقليات، وجعلت من الميليشيات رافعة رئيسة لدورها الإقليمي.
كيف يمكن أن تكون إيران وهي على هذا النحو عمقاً استراتيجياً وحضارياً للعرب، هي من تعتبر نفسها، قبل أن يعتبرها غيرها، دولة طائفية، وتستثمر في إنشاء وتمويل وتسليح ميليشيات في مواجهة الدولة الوطنية في العالم العربي، وهي طرف مباشر في أبشع حربين أهليتين عرفهما العالم العربي عبر تاريخه في كل من العراق وسورية، وتشجع حلفاءها في العراق وسورية على إعادة تأسيس الدولة في كل منهما على أساس طائفي. سؤال آخر للأخ معن: لماذا اعتبرت إيران صدام حسين، وهو كان أمين عام حزب البعث في العراق، علمانياً كافراً، في حين أنها تعتبر بشار الأسد رجلاً مؤمناً ورمزاً لما تسميه المقاومة، وهو أمين عام حزب البعث في سورية؟ كيف أصبح البعث كافراً في العراق، ومؤمناً في سورية؟ أليس الانتماء المذهبي للأمين العام في الحالتين هو ما صنع الفرق الأهم بالنسبة إلى القيادة الإيرانية؟
رؤية القوميين العرب لإيران ودورها، كما يصفها معن بشور تجافي واقع النظام الإيراني وطبيعة توجهاته وأهدافه في المنطقة، وواقع العلاقات العربية - الإيرانية. وهي رؤية تعبر إما عن مثالية سياسية ساذجة أو، وهو الأرجح، أنها رؤية تبريرية للتغطية على منحى طائفي للنظام السوري في تحالفه مع إيران. مأزق القوميين أن الثورة كشفت زيف الادعاء القومي لهذا النظام، وأنه متحالف مع إيران والميليشيات التابعة لها أكثر مما هو متحالف معهم، لكنه في الوقت نفسه آخر ما تبقى لهم في المنطقة.
يظن الأستاذ بشور أن موقفي من القوميين نابع من أنهم يوجهون نقداً للسعودية، ولا أدري كيف توصل إلى ذلك، توجيه النقد للسعودية أو غيرها، خصوصاً المتوازن، هو حق للجميع. ما آخذه على القوميين، خصوصاً غالبيتهم في سورية ولبنان، هو صمتهم المطبق على الدور الإيراني في المنطقة، وتحديداً بعد الغزو الأميركي للعراق، والثورة في سورية، إن كانوا يعتقدون بأن إيران على حق في ما تفعله هناك فتعوزهم الجرأة في التعبير عن ذلك، وإن كانوا يرون العكس فهم يفتقدون أمانه الكلمة ومسؤوليتها. هم يعرفون قبل غيرهم أن الطائفية تتناقض رأساً مع القومية، وقبل ذلك مع مفهوم الدولة، وهو ركيزة التوجه القومي، لكنهم يتجنبون الحديث عن حقيقة النظام الإيراني، لأنه يقود حتماً للحديث عن حقيقة النظام السوري، يتجاهلون أن إيران حولت الطائفية من موروث فكري إلى نصوص دستورية ملزمة، وإلى عملية سياسية على الأرض من خلال مؤسسات وتحالفات وحروب أهلية، لم يتساءل القوميون العرب لماذا تمنع إيران وجود ميليشيات على أراضيها، وتعمل على نشرها في الدول العربية؟ أو لماذا الأمين العام لـ «حزب الله اللبناني» (سيد المقاومة في نظرهم) يعلن دائماً أنه يعمل تحت راية ولاية الفقيه في إيران، وليس تحت راية العلم اللبناني، ولا حتى العلم السوري؟ ما علاقة القومية بمثل هذا الموقف؟
سيقال إن دعم إيران للمقاومة ضد إسرائيل يفرض التقدير والتشجيع، أو كما يقول بشور إنه موقف يجب «تطويره والانتقال منه لتنقية كل الشوائب الأخرى العالقة في العلاقة العربية - الإيرانية»، هل تدخّل إيران في العراق وسورية من خلال الميليشيات، وتأجيج الحرب الأهلية فيهما، والمساهمة بقتل مئات الآلاف من العراقيين والسوريين، وتهجير أكثر من نصف سكان سورية، هو في نظر القوميين ليس أكثر من شوائب «في العلاقات العربية - الإيرانية» فقط؟ ثم ما هي هذه المقاومة التي في رقبتها دماء مئات الآلاف من السوريين والعراقيين خلال ست سنوات، وهو رقم يتجاوز أضعاف المرات حجم ضحايا الحروب من كل العرب مع العدو الإسرائيلي عبر ما يقارب من سبعة عقود، وليس ست سنوات فحسب؟
في المحصلة لم ينف الأخ معن في مداخلته، وهذا لافت، صمت القوميين العرب عن الدور الإيراني، كل ما ساقه مرافعة لتبرير هذا الصمت، وليس حتى لتفسيره، وإذا كان في هذا من تعميم فهو صاحبه وليس أي أحد آخر.
أرسل تعليقك