بقلم - خالد الدخيل
شهدت المنطقة في الأسبوع الماضي وحده تتابع ثلاثة أحداث كبيرة: اغتيال الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وانعقاد القمة الخليجية الـ38 في ظل أزمة قطر، وأخيراً، إعلان دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة أبدية (موحدة أيضاً؟) لإسرائيل. تتابع هذه الأحداث يوحي بترابط علاقة السبب بالنتيجة. حدثت في مرحلة واحدة، وفي فسحة أسبوع واحد من زمن واحد، وعمقت نتيجة واحدة لم تختلف إلا في تفاصيلها منذ عقود زمنية متتابعة.
تم اغتيال علي صالح على يد الحوثيين بطريقة بشعة. حاولوا التغطية عليها بتزوير كيف بدأت، وكيف انتهت. حاول المتحدث باسمهم، محمد البخيتي، تبرير فعلتهم بقوله لفضائية «الجزيرة» إننا «لا نحسبها حسبة سياسية أو عسكرية... نحن ننطلق من منطلقات إيمانية». أي أنهم جعلوا من أنفسهم أوصياء على مفهوم ومعايير الإيمان والخيانة لدى غيرهم، خارج كل الأطر السياسية والقانونية، ثم استشهد بآية من القرآن في سورة الأنفال، تقول: وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم. وإذا عرفت أن هذه الآية نزلت تخاطب النبي محمد صلى الله عليه وسلم في موضوع أسرى معركة بدر، عرفت أن الحوثيين يعتبرون أنها تخاطبهم أيضاً كما خاطبت النبي من قبل. ومع أن هذه آية، وفق المفسرين، لا تبرر القتل، فضلاً عن الاغتيال، وإنما تتحدث عن صدق الإيمان، إلا أن الحوثيين أولوها تأويلاً سياسياً متطرفاً وإرهابياً، كما استشهد بها المتحدث.
قتل صالح توج استفراد ميليشيا مذهبية بالدولة اليمنية للمرة الأولى في تاريخ هذا البلد العريق. حصل ذلك في سياق عربي يشهد هيمنة الميليشيا على ثلاث دول عربية أخرى، هي العراق وسورية ولبنان. ما ينبغي أن يلفت نظر المراقب في هذا المشهد هو هذا الحضور الباذخ للميليشيا في أربع من أهم الحواضر العربية. وهو حضور لافت لأنه، فيما عدا اليمن وسورية، كثيراً ما يبدو بأنه ليس مفروضاً بقوة السلاح وحسب، بل يعتاش على ثقافة مذهبية وطائفية متجذرة، تخاتل بالتعبير عن نفسها سياسياً وإعلامياً، وليس تعبيراً دينياً مباشراً. القيادات التي تتصدر هذا الخطاب الملتبس قيادات دينية تترأس ميليشيات سياسية، تبدأ من حسن نصر الله، مروراً بعبد الملك الحوثي، ولا تنتهي بقيس الخزعلي، الأمين العام لـ «عصائب اهل الحق». واللافت مرة أخرى أن هؤلاء صار بإمكانهم تقاسم الفضاء السياسي والإعلامي مع رؤساء الدول العربية. لا تستغرب هذا. المنطقة تمر بمرحلة الدولة في زمن الميليشيات.
سيبرز سؤال: ما علاقة ذلك بانعقاد القمة الخليجية؟ ليس من علاقة مباشرة. لكن العلاقة غير المباشرة ما هي إلا استكمال متمم للمباشرة. فأزمة قطر، التي كادت أن تعصف بتقليد انعقاد القمة، هي في نهاية المطاف جزء من الأزمة ذاتها، بما في ذلك أزمة الدولة العربية مع الميليشيا. لاحظ مثلاً أن قطر لجأت أخيراً، إلى التقرب من إيران للاستقواء بها تمسكاً بسياسة مناكفة السعودية بدلاً من العمل على حل جاد للأزمة معها. تفعل ذلك، وهي تدرك أن إيران هي الراعي الرئيس للميليشيات في العالم العربي، وأنها تستهدفها بآلية الميليشيا هذه بقدر ما تستهدف السعودية، وكل الدول العربية. واستكمالاً لذلك دعت تركيا إلى إقامة قاعدة عسكرية على أراضيها ظناً منها أنها ستحميها من جارتها الكبيرة. وهي خطوة لا معنى لها في ظل وجود قاعدة العديد الأميركية. أخيراً، قامت قطر بتوقيع اتفاقات لشراء معدات عسكرية من فرنسا بأكثر من 12 بليون يورو أوروبي. كيف يستقيم كل ذلك، وقطر تقول في كل مناسبة إنها تريد حلاً سريعاً لأزمتها؟ تبدو قطر في كل ذلك وكأنها تستعد لمعركة، وليس لحل يضع حداً لخلافات ما كان لها أصلاً من مبرر.
في الاتجاه ذاته، لاحظ أن قطر حولت فجأة خطاب فضائيتها (الجزيرة) لاستهداف السعودية، ومن تسميهم بـ «دول الحصار». وهو خطاب يتقاطع تماماً مع خطاب إيران والميليشيات، التي ترعاها في المنطقة. تفعل ذلك الآن في كل القضايا العربية الملتهبة بما في ذلك الحرب في اليمن وسورية، وطبعاً القضية الفلسطينية، وأخيراً، اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. قبل أزمتها الأخيرة كانت قطر تحظر على «الجزيرة» الإساءة إلى السعودية. أما بعد الأزمة فقد انتهت صلاحية هذا الحظر، ليتحول ويصبح لمصلحة إيران. لماذا تصر الدوحة على تربيع الدائرة بمثل هذه السياسات؟ ليس لها، ولا للسعودية، أو أية دولة عربية، مصلحة في ما تصر عليه. تظن أن في هذا ورقة ضغط مفيدة. وهي لم، ولن تكون كذلك. هل لأن قطر تمارس لعبة سياسية خاصة بها؟ أم لأن سياساتها انزلقت بها إلى لعبة سياسية أكبر منها، لا تملك كل أوراقها، ولا كل أدواتها؟ تصر قطر على حل سياسي للأزمة. وهذا جيد. في الوقت ذاته، تصر على مناكفة السعودية بمناسبة، ومن دون مناسبة. وهذا مربك. لمصلحة من تفعل ذلك؟ يقول الإخوة في قطر إنهم لا يقبلون الإملاءات، ولا التعدي على استقلالهم وسيادتهم. وهذا منطقي تماماً، وحق طبيعي لا منة فيه لأحد. لكن هل يستدعي هذا الحق المشروع استعداء السعودية ومناكفتها، والتحالف مع دول من خارج المنطقة لترسيخ هذا الاستعداء، وتبرير تلك المناكفة، ومحاربتها إعلامياً بشراسة لم تستخدم حتى مع العدو الإسرائيلي؟
قرار ترامب يأتي الأخير في تتابع الأحداث الثلاثة. لعله جاء كذلك لأنه في جانب منه نتيجة طبيعية لمسار الأحداث وسياقاتها. وعندما يكون الجالس في البيت الأبيض شخص بمواصفات ترامب فلا ينبغي أن يكون قراره مستغرباً. رجل أرعن، متغطرس، وعنيد. يرأس أعظم دولة في التاريخ. هذه مواصفات قد تؤدي إلى كارثة. هل جاء قراره مفاجئاً في توقيته؟ ما كان يمكن التوقيت أن يكون بالمعايير الترامبية أفضل من ذلك. هو يعاني من أزمات وانتكاسات لا تنتهي في الداخل؟ قد تصل التحقيقات في علاقة حملته الانتخابية بالروس إليه شخصياً. لم يعد لديه من دعم حقيقي إلا لدى الجماعات الإنجيلية التبشيرية، التي ترى في تسليم القدس إلى إسرائيل تحقيقاً لعقيدتها الدينية. على الضفة الأخرى، هناك العالم العربي: مضطرب، ومرتبك، ومنقسم. يمر بحالة تفسخ لا يبدو أنها تقترب من ذروتها بعد. حتى الخليج العربي بموقعه، واستقراره، وواعديته، يمر بأزمة لم يعرفها من قبل. ثم هناك إسرائيل، التي تحتاج إلى دولة بحجم أميركا ووزنها تصادق على مشروعية تتويج مشروعها بالاستيلاء على القدس. للعالم العربي كل الحق أن يقول ما يريد في خطوة ترامب غير القانونية. لكنه المنشأ الأول لهذا المأزق.
أرسل تعليقك