بقلم/ خالد الدخيل
أزمة الخليج الحالية أزمة دولة صغيرة تحاول أن «تمارس دوراً إقليمياً لا يتجاوز حجمها وقدراتها فحسب، بل يتصادم مع مصالح دول عربية أخرى بعضها دول كبيرة». ومع ذلك «... ليس واضحاً ما الذي تطمح قطر إلى تحقيقه». يتقاطع هذا الدور مع مصالح قوى ودول أخرى بما قد يضر بمصالح دول عربية. لكن الأزمة بهذه المواصفات هي أزمة النظام الإقليمي العربي، وتحديداً الدول الكبيرة في هذا النظام. (انظر مقالة الأحد الماضي). الخريطة السياسية للعالم العربي تتغير أمام أعيننا بفعل تدخلات ومصالح دول خارجية، تتواطأ معها قوى محلية، وليس بفعل ديناميكيات من داخل النظام، وتبعاً لخيارات ومصالح دوله العربية. العراق الذي كان تحت حكم حزب البعث القومي العربي تحول بفعل تدخل أميركي- إيراني إلى دولة طائفية، تخضع لهيمنة إيرانية. سورية التي كان أيضاً يحكمها حزب البعث لا أحد يعرف كيف، وأين ستستقر الحال بها.
المظهر الآخر للأزمة، والأقسى تعبيراً عنها أن الكثير من الدول العربية إما عاجز أمام ما يحدث، أو ينكر خطورة ما يحدث. في لقاء لها مع وزير خارجية عمان يوسف بن علوي، بتاريخ 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 سألته صحيفة «الحياة»: «ما المصلحة العُمانية في عدم الاعتراض على السياسة الإيرانية داخل سورية؟». كانت إجابته: «إننا نحترم كل دولة في العالم، لأن لديها مصالح تتصرف فيها كما تشاء، وبالتالي إن كان ذلك خطأ هي تتحمله وإن كان إيجابياً هي تتحمله، هذه هي السياسة العامة للسلطنة». واستطراداً سألت الوزير: «هل توافق عُمان على تدخّل إيران العسكري؟ فأجاب بالنص: «ليس لنا حق في أن نوافق على سياسة فلان أو لا نوافق».
دول عربية أخرى تلتزم الصمت حيال الدور الإيراني في ما يجري من كوارث في العراق وسورية ولبنان، مثل الجزائر وتونس والمغرب. ومع أن مصر تكرر رفضها لأي تدخل أجنبي في الشأن العربي، والتزامها بالدفاع عن المصالح القومية العربية، يلاحظ أنها تتجنب ذكر إيران.
يعبر الصمت أحياناً في حالات الدول عن الحكمة، ورسم ووزن الحسابات، والتأني في اتخاذ القرار. في حالات أخرى يعبر عن العجز والارتباك، يفضي إلى فراغ تستغله قوى ودول أخرى. من الفراغات العربية تسللت أشياء كثيرة. منها تسلل التخلف والاستبداد. ومنها تسلل الدور القطري كما النفوذ الإيراني، وقبل ذلك الانتصارات الإسرائيلية. وبالتوازي مع ذلك وبعده تسللت فكرة الطائفية والميليشيات إلى الواقع السياسي العربي.
من هذه الفراغات ما هو أيديولوجي. وهذا مربك في منطقة ولدت فيها الأديان الثلاث وتزدحم بالأيديولوجيات. كانت للقومية العربية (بمعناها الملتبس) حتى أواخر ستينات القرن الماضي، ومعها اليسار (بمعناه الفضفاض والسطحي) مركز الجاذبية السياسية لدى غالبية الناس. لم يكن ذلك تعبيراً عن قناعة، أو متانة في طرح هذه الأيديولوجيات. لكن القومية واليسار ملآ فراغاً نشأ بعد تأسيس الدول «الوطنية» في حقبة ما بعد الاستعمار. تبعاً لهشاشتها لم تصمد هذه الأيديولوجيات أمام الصراع العربي- الإسرائيلي. انكسرت في شكل مؤلم بعد هزيمة حزيران (يونيو). عاد الفراغ مرة أخرى، واستثمرت فيه التيارات الإسلامية، محققة في شكل عام نجاحات جماهيرية كبيرة، شبيهة بما كانت عليه النجاحات القومية. اللافت هنا أن هيمنة الأيديولوجيا الإسلامية (أو الإسلام السياسي) بمختلف تياراتها تحققت بمعزل عن الدولة، وفي صدام معها معلن في حالات وتواريخ معينة، ومضمر في حالات وتواريخ أخرى. في أجواء هذه الهيمنة ظهر التطرف والإرهاب، وبالتوازي معهما عادت إلى البروز التمايزات المذهبية. في هذه اللحظة حصلت الثورة الإيرانية. وهي ثورة اختطفها التيار الديني ليقيم في إيران دولة دينية بهوية مذهبية.
في غمرة هذه التحولات كانت الدولة العربية في حال توهان أيديولوجي. هي دولة عربية إسلامية، تريد أن تكون دولة وطنية حديثة. لكنها لم تنجح، لأسباب عدة ومتداخلة، في بلورة معادلة سياسية اقتصادية لتحقيق هذه النقلة. المفارقة أن هذه الدولة أسهمت في شكل مباشر وغير مباشر أحياناً في الترويج للأيديولوجيا الإسلامية. ومع ذلك، ومع أنها تعاني من هيمنة هذه الأيديولوجيا، إلا أنها لم تنجح في طرح البديل الأيديولوجي لسحب البساط من تحت هذه التيارات. الأمر الذي دفعها إلى الأخذ بالحل الأمني لمواجهة القوى الإسلامية. وجد الناس أنفسهم بعقلانيتهم ومصالحهم في هذه الحال مع الدولة والاستقرار. لكنهم بأحلامهم وطموحاتهم (كما كانت الحال أيام القومية) يميلون للتيارات الإسلامية.
يشير هذا الموقف الشعبي المتذبذب بين العقلانية والطموح، بين الدولة والتيارات الإسلامية، إلى حال فراغ ظلت ملازمة حتى الآن. وهي حال ناشئة عن عجز الدولة، أو مقاومتها لفكرة تقديم البديل الفكري لما تطرحه هذه التيارات. وهذا أمر يثير دهشة كثيرين. هل الدولة عاجزة حقاً عن تقديم البديل؟ أم أنها تخشى من أن تبنيها لفكرة البديل سترتب عليه تبعات سياسية لا قبل لها بها. مهما يكن، من الواضح أن الدولة العربية ليست مهيأة بعد للدخول في عمق الصراع الأيديولوجي. والحقيقة أنها غادرت هذا الصراع بعد الانكسار الكبير لهزيمة حزيران 67. أصبحت الدولة تقاوم فكرة الأيديولوجيا أصلاً، ولا تملك إزاءها إلا الهجاء والتبخيس. ومرة أخرى من دون أن تقدم بديلاً لما ترفضه. هذه حتى الآن ظاهرة عربية، أبرز حالاتها مصر والأردن والإمارات والجزائر وعمان. وهي ظاهرة تعبر عن حال توهان أيديولوجي. المفارقة أن الدولة بهذا العجز المترافق مع حرصها على تأكيد هويتها الإسلامية أسهمت، من دون أن تقصد، في تعزيز شعبية التيارات الإسلامية المناوئة لها.
في هذه الحال لا تستطيع الدولة بمحدودية إنجازاتها السياسية وفشلها التنموي منافسة القوى الإسلامية (بمختلف تياراتها) أيديولوجياً. في المقابل لا تستطيع هذه القوى فرض خياراتها على الدولة أيضاً. هي دولة قوية أمنياً، أمام قوى لها جاذبية أيديولوجية، لكنها ضعيفة سياسياً. أكثر شيء نجحت فيه الدولة هو توفير الاستقرار السياسي. وغالبية الناس مع بقاء هذا الاستقرار، من دون أن يعني ذلك أنها مع النظام السياسي للدولة. هذه صورة عامة لها تفاصيل كثيرة تختلف من دولة عربية إلى أخرى. مع الربيع العربي وقفت غالبية الناس، وفي الجمهوريات العربية تحديداً، ضد النظام وليس ضد الدولة، ومن دون أن تكون مع التيارات الإسلامية. وهذا ما أثبتته الدول العربية الخمس التي طاولتها ثورات الربيع، وفي شكل خاص تونس ومصر.
وسط هذا الفراغ الأيديولوجي، والصراعات التي كانت تدور داخله بين الدولة وخصومها نمت وترعرعت الأفكار والجماعات المتطرفة والإرهابية. من البوابة ذاتها دخلت إيران إلى الساحة العربية. ولأنها دولة دينية عملت على ملء الفراغ بإحياء الطائفية، مستخدمة الميليشيات المذهبية كرافعة لدورها المستجد في العالم العربي. لهذا الدور قصة طويلة ليس هنا مجالها. لكنه دور بدأ مع الحرب العراقية - الإيرانية، بإنشاء فيلق بدر العراقي عام 1980، وحزب الله اللبناني في 1982، وانتهى حتى الآن بالهيمنة على العراق، وتقاسم الهيمنة مع روسيا في سورية. الشاهد في كل ذلك أن الفراغ الأيديولوجي العربي سمح ليس فقط بالتطرف والإرهاب، بل بفكرة الميليشيات كرديف للدولة (وهذا علامة على ضعف الدولة)، وإعادة بعث الطائفية كمصدر مستجد للإرهاب، وبأدوار إقليمية ودولية بعضها معلن، وبعضها مستتر.
ولأن الفراغات تتوالد كما تتوالد الأفكار والحروب، والانتصارات والانكسارات، ترافق، أو سبق الفراغ الأيديولوجي في الساحات العربية فراغ سياسي. أيهما كان السبب في نشأة الآخر؟ هذا سؤال ليست له إجابة واحدة لكل حال عربية. للحديث بقية.
أرسل تعليقك