طوال العقد الماضي، ظلّ شبح 28 ورقة محجوبة يحوم حول العلاقات السعودية - الأميركية، إذ كانت تشي باتهام الرياض بأن لها دوراً مشبوهاً وملتبساً في واقعة 11 أيلول (سبتمبر)، ما عكّر العلاقة الممتازة تاريخياً بين البلدين ووضعها في حال دفاع، كانت تصرخ بأصدقائها المفترضين في واشنطن أن أزيلوا السرية عن هذه الأوراق، فليس لدينا ما نخفيه، فيرد المسؤولون في البيت الأبيض والخارجية، وفي إدارتين متعاقبتين: «لا نستطيع، نخشى أن يؤثر ذلك في العلاقة بين البلدين ويحرجكم»!
ردّ كهذا كان يزيد الطين بلة، ويعزز الشكوك لدى رجال السياسة والإعلام، بل حتى الرأي العام الأميركي، بوجود أدلة دامغة تدين الرياض ورجالها، فينساب ذلك في مقالات أو تصريحات معادية للمملكة أميركياً وأوروبياً، ومع كل تصريح ومقالة تفقد العلاقات السعودية - الأميركية بعضاً من متانتها وثقتها المتبادلة، وفي وقت حرج ولحظات حرجة بالمنطقة، انهارت خلالها دول وشاعت فيها الفوضى حتى انتهت إلى ما انتهت إليه، خلال الولاية الثانية للرئيس أوباما ابتسامات وشد أيدٍ في الظاهر، وتلاوم وتعاتب خلف الأبواب المغلقة، وأحياناً يطفح سلبية في مقابلة صحافية، كحوار أوباما الشهير مع مجلة «أتلانتك».
ثم أزيلت السرية المخيفة عن تلك الأوراق أوائل الشهر الماضي، فكانت «كالفأر الذي تمخض عنه الجبل» مجرد «لا شيء» كبير، كلها ما يسميه القانونيون: «أدلة ظرفية»، مجرد شبهات وعنعنات لم تستحق كل تلك السرية والإثارة، ماتت فور إعلانها في واشنطن، حيث المتربصون الذين طالما انتقدوا الرياض وسياستها و«وهابيتها»، حتى المرشح الرئاسي الشعبوي دونالد ترامب لم يجد فيها ما يستطيع توظيفه في سياسته الناجحة بتخويف الناخب الأميركي البسيط من أعدائه المسلمين، ليكسب الأصوات والتعاطف.
اكتشف العالم أن معظمها مجرد مزاعم لم تثبت، وتقارير صحافية نشرت قبل عقد من الزمان، عندما انكبت الصحافة الأميركية تبحث وتستقصي وتقلب كل حجر وتنظر أسفله وأعلاه، لربط جريمة بن لادن و19 خاطفاً بشريك أبعد من كهوف تورا بورا وبيوت قندهار الطينية البائسة.
أبرز التقارير هي التي انفرد بنشرها في مجلة «نيوزويك» الصحافي الاستقصائي الشهير مايكل إيسكوف، الذي أعرفه جيداً، والتقيته غير مرة في الولايات المتحدة وجدة، التي زارها بعد أسابيع من الحادثة، وبعد نشره تقارير عدة حاول فيها ربط بعض الخاطفين بالحكومة السعودية، وفي وقت كانت الولايات المتحدة ورئيسها جورج بوش هائجين يبحثان عمن يحاربانه انتقاماً لما جرى. أفغانستان لم تستغرق في يدهما إلا قليلاً لإدانتها، والعراق كان صعباً اتهامه، لكنهما فعلا بتزوير حقائق عرضاها حتى على مجلس الأمن، وبقية قصة الخداع معروفة! السعودية بدت وقتها كأنها الهدف الثالث.
أدلة إيسكوف الظرفية، وهي ما تضمنته الصفحات المحجوبة «البالغة السرية»، تدور حول خاطفَين سعوديَّين، وصلا إلى سان دييغو، زاعمين أنهما طالبان، ومثلهما يصل إلى أميركا يومياً عشرات، فتعرفا إلى مواطن لهما يعيش هناك فساعدهما، تحرى إيسكوف في حسابات الرجل واتصالاته، ولا بد أن جهة أمنية ساعدته في ذلك، فأجرت هذا المسح على كل سعودي في الولايات المتحدة وقتذاك، فوجدت أنه تلقى مساعدة مالية من زوجة السفير السعودي بواشنطن آنذاك، التي صادف أنها أميرة وابنة ملك (الأميرة هيفاء الفيصل)، وزوجها أمير (بندر بن سلطان) هو الآخر، والده وزير الدفاع وقيادي متنفذ في هرم الحكم بالمملكة (الراحل الأمير سلطان)، طار إيسكوف (ومَنْ خلفه) فرحاً بهذا الاكتشاف الخطر، معتقداً - أو راغباً - أنه أثبت تلك الصلة المباشرة بين الخاطفين والحكومة، على رغم علمهما بأن السفارة السعودية والسفير وزوجته يساعدون مئات السعوديين، وأن هذا جزء من شبكة العلاقة الاجتماعية المعتادة والمتكررة بين المواطنين والأسرة المالكة والحكومة السعودية. لا بد أن خبيراً أميركياً ما أخبرهما بأنهما وقعا على لا شيء، لكنهما استمرا بِلَوْكِها وتقليبها، وعندما وصلت إلى أروقة المحاكم لم تقف على قدميها، بل حتى «اليمين المحافظ» الذي كان يبحث عن عدو آخر لم يستطع اعتمادها أدلة ثبوتية، فبقيت في أرشيف المجلة، ومنها إلى صفحات تحقيق الكونغرس الرسمي في أحداث 11 أيلول، بخاصة تلك المحجوبة، لتؤرق العلاقات بين البلدين 10 أعوام تالية.
وفي حين استطاعت الحكومة السعودية مواجهة تلك الحملات والاتهامات، مستخدمة دبلوماسيتها وأهميتها السياسية، حتى أروقة المحاكم، كان هناك رجال أعمال وشخصيات سعودية تعرضوا لإيذاء وخسائر كبيرة بسببها، لعل أفضل ما يشرح ذلك هو قصة ما يسمى «السلسلة الذهبية» التي اهتم بها الصحافي جيمس دورسي وصحيفته الواسعة النفوذ وذات المزاج اليميني «وال ستريت جورنال». دورسي صحافي محترم، أعرفه هو الآخر جيداً، والتقيته خلال انشغاله بهذه «السلسلة الذهبية» إلى حد الهوس، فنشر في صحيفته تقارير تتهم رجال أعمال سعوديين وشركات كبرى في المملكة بالتورط في تمويل الإرهاب، من دون أن يقدم أدلة كافية، ما مكنهم من مقاضاته، فاضطروه والصحيفة إلى الاعتذار، لكن تلك الحملة نجحت في إضافة أسمائهم وآخرين إلى قائمة الأمم المتحدة لممولي الإرهاب، ما عطل مصالحهم، وأحاطهم بالشبهات، ومنعهم من السفر.
قائمة الأمم المتحدة وخطاياها تستحق التحقيق من السعودية الآن، فلقد كانت أشبه بالسلاح السري الذي استخدمته جهات غامضة في الإدارة الأميركية كانت تطعن في الخلف، فبينما كانت الرياض تتعاون مع الجهات الرسمية في التحقيقات، فوجئت بزج أسماء سعوديين في تلك القائمة، التي كان الدخول فيها معلوماً، والخروج منها غامضاً مجهولاً. قال لي محامي أحد السعوديين: إن القائمة صممت بطريقة غير عادلة، أغلقت بها السبل القانونية للخروج منها تعمداً، فكان ذلك سبباً لطول مدة التقاضي للمضافين إليها، وتعقدها، واضطرارهم إلى دخول معارك قانونية في أكثر من محكمة حول العالم.
كان أساس تلك الاتهامات الخطرة مجرد ورقة، ضمت قائمة بأسماء كبار رجال الأعمال وأثرياء المملكة، لم يوافقوا أو يعلموا بوجودهم فيها، كتبت في بيشاور خلال الجهاد الأفغاني (الذي كان مرضياً عليه أميركياً وقتها)، وزعت مهمة الاتصال بهم لأسامة بن لادن (ولم يكن أسامة مطارداً يومها) وآخرين، هذه الورقة المكتوبة بخط اليد كادت تدمر إمبراطوريات مالية ومعها الاقتصاد السعودي.
حتى الآن، أحتار في ما إذا كان الزميلان (دورسي تقاعد من الصحافة، وآخر مرة التقيته صدفة في دبي، حيث أقام فيها فترة) متحمسين فقط لعملهما في الصحافة الاستقصائية، وهو عمل رائع بالفعل، وعادة تذهب الجوائز والشهرة الى من يتخصص فيه، أم لغرض آخر؟ لقد أمضيت معهما ساعات عدة وفي أكثر من مكان، أحاول إقناعهما بأن ما وجداه ويقلبان فيه ليس «كنزاً»، لكنهما بقيا يتابعان تلك الخيوط الوهمية التي لم تفضِ إلى شيء.
الذي أريد أن أصل إليه، أن اللوم يجب أن يقع على الولايات المتحدة، التي تملك الخبرة والمعرفة بسياسة المنطقة وتاريخها وعاداتها، لكنها تركت القدر تغلي طوال السنوات الماضية، وتطفح بمائها الساخن تارة وأخرى مؤذياً المملكة وقيادتها ورجال أعمالها، ومعهم العلاقات بين البلدين، وفي زمن الفوضى والانهيار، الذي يستوجب التعاون والثقة، فلماذا؟ ومن هي تلك القوى داخل الإدارات الأميركية المتعاقبة التي خططت لذلك؟
إنها مسألة تستدعي اهتمام المملكة، فما جرى ليس بريئاً، وتخطيط هذه القوى لا يزال مستمراً، ونراه في المواقف الأميركية الملتبسة، وهي تتعامل مع قضايا المنطقة الكبرى، أكان ذلك في سورية، أو في العراق أو في ملف المشروع النووي الإيراني، بل حتى في ترك إيران تسرح بحرية بمشاريعها الطائفية وميليشياتها في المنطقة، ناشرة الفوضى والخراب، وأخيراً في موقف أميركا الملتبس حيال الانقلاب الفاشل في تركيا.
مثلما لم تكن لدى الولايات المتحدة أدلة ثبوتية مكنتها من اتهام المملكة بدعم الإرهاب، فلجأت (أو قوى فيها) إلى التشويش بملف الـ28 صفحة المحجوبة، والحملة المصاحبة لها طوال العقد الماضي، تفتقد المملكة أدلة ثبوتية، لكن لديها أسبابها وأدلتها الظرفية للشك في أن ثمة رائحة سيئة هناك في واشنطن.
أرسل تعليقك