بقلم - عبد المنعم سعيد
المفارقة الكبرى في القضية الفلسطينية، هذه الأيام، هي ما تتجسد في تلويح الإدارة الأميركية بصفقة كبرى لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من ناحية؛ وعدم معرفة جميع الأطراف بماهية هذه الصفقة من ناحية أخرى. ومن الناحية العربية، فإن المفارقة الأعجب هي إصرار الجميع على أهمية القضية، ومع ذلك فإن هناك استسلاماً كبيراً لانتظار ما سوف تأتي به أميركا من أفكار حتى يمكن دراستها والبحث فيها، ولا توجد هناك فكرة عربية أو فلسطينية واحدة للتعامل مع الواقع الراهن، سواء على مستوى الإقليم العربي أو الشرق الأوسط كله في أعقاب التطورات التي جرت أثناء وبعد ما سمي «الربيع العربي».
واحدة من المحاولات النادرة لتقدير الموقف الفلسطيني جاءت من الدكتور خليل الشقاقي، وهو من أبرز أساتذة العلوم السياسية العرب، كما أنه مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله، في شكل ورقة «سياساتية» صدرت في 6 مارس (آذار) الحالي تحت عنوان «التحديات ومصادر التهديد التي تواجه الفلسطينيين اليوم». الورقة تقدم تحليلاً راقياً للحالة الفلسطينية الآن، وعلى درجة عالية من الواقعية، وتقدم للفلسطينيين في عمومهم ما يمكن أن يكون مخرجاً من أكثر المآزق شدة «منذ نهاية الانتفاضة الثانية في نهاية عام 2004». الورقة تقدم لثلاث نقاط جوهرية: التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية، والتهديدات المترتبة عليها، وكيفية الخروج من المأزق الراهن. والحقيقة أن ما كان من قوة ودقة ورصانة في رصد التحديات والتهديدات، فإنه عندما يصل إلى نقطة الحل نجد أنفسنا عند الشواطئ نفسها التي وقفت عندها القضية الفلسطينية خلال العقود الماضية.
التحديات أربعة، واحدة تنبع من فشل حركة التحرير الفلسطينية في تحقيق أهدافها في التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بينما تواجه خطة سلام أميركية متخيلة تأتي بعد إجراءات تقوم بها إسرائيل على الأرض، وقامت بها الولايات المتحدة، وكانت نتيجة مقاطعة السلطة الفلسطينية للتعامل مع الولايات المتحدة فرض عقوبات عليها أضعفت من قدراتها الاقتصادية. والتحدي الثاني داخلي ناجم عن الانقسام الفلسطيني الذي بدأته «حماس»، ولكن الجديد أن هذا الانقسام يمضي ويتعمق ويخلق واقعاً جديداً تنفصل فيه تدريجياً الضفة عن القطاع. والتحدي الثالث ناجم عما سبق ويسبب معاناة مالية واقتصادية غير مسبوقة، حيث تنضب الموارد الفلسطينية يوماً بعد يوم، كما أن فشل المبادرة الأميركية سوف يُلقى على عاتق الفلسطينيين مضافة له عقوبات اقتصادية إضافية تساهم في تعميق الانفصال بين الضفة والقطاع، فضلاً عن ارتجاج الساحة الداخلية الفلسطينية. وهو ما يفضي فوراً إلى التحدي الرابع، والمتعلق بمشروعية السلطة الفلسطينية الراهنة، ويسبغها بسبغة «سلطوية» متصادمة مع «حماس» بحكم الطبيعة والتاريخ، ولكنها متصادمة في داخل «فتح»، وأكثر من هذا مع المجتمع المدني الفلسطيني؛ وكل ذلك يمكن إضافة قضية الخلافة في قمة السلطة الفلسطينية إليه.
تحديات بمثل هذا الحجم لا بد لها أن تولد تهديدات خطيرة للقضية الفلسطينية، وتحددها الورقة الفلسطينية المشار إليها في التهديدات الخارجية القادمة من إسرائيل التي لا تزيد المستوطنات فقط، وإنما تلوح بالضم لأجزاء أو كل المنطقة «سي C»، مع فرض المزيد من القيود على الفلسطينيين، سواء في الحركة أو البناء أو الإقامة في القدس. وهناك التهديدات القادمة من الولايات المتحدة التي طبقت أجزاء منها بالفعل فيما تعلق بالقدس واللاجئين، ولكن هناك ما هو أكثر في المنظمات الدولية وشرعية جواز السفر الفلسطيني. كما أن هناك التهديدات القادمة من الإقليم، حيث تعتمد أطراف إقليمية مثل إيران على طرف فلسطيني مثل «حماس»، فيكون التسليح للانقسام الفلسطيني. التهديدات الداخلية لا تقل خطورة، فـ«حماس» المسلحة تخلق ظرفاً مواتياً لحرب مع إسرائيل، وتمنع في الوقت نفسه كل إمكانات المصالحة الفلسطينية. السلطة الفلسطينية في الوقت ذاته، ومع استمرار الضغوط الداخلية والخارجية تجنح إلى تقويض سيادة القانون وأرضية الشرعية الدستورية عندما حلت المجلس التشريعي الفلسطيني، وكل ذلك في النهاية يخلق خطر غياب خيار دستوري للتعامل مع الواقع الراهن والمستقبل الفلسطيني.
الصورة المخيفة هذه تعبر عن الواقع الفلسطيني بدقة ووضوح، ولكنها عندما تصل إلى نقطة المواجهة فإنها تستريح إلى ما هو مألوف، ولكن وللحق فإنها تبقي الباب مفتوحاً، لكي تكون هناك خطة فلسطينية عربية مشتركة بديلة لخطة ترمب الحقيقية أو الوهمية. فالمقترح هو تحقيق «المصالحة» الفلسطينية، وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية معاً، وتوثيق العلاقات مع مصر والسعودية والأردن لتصحيح توازن القوى المختل مع إسرائيل، والخروج بالخطة المشار إليها. المعضلة هنا أن المصالحة باتت من الأمور المستحيلة على ضوء ما هو معروف من «حماس» من تاريخ مع السلطة الوطنية، ومن رفض لقبول شرط الدولة الفلسطينية في أن تكون هناك سلطة واحدة لها حق الاحتكار الشرعي لحمل السلاح. والخطة العربية لا يكفي فيها الحديث عن المبادرة العربية للسلام التي يمكن توسيعها، بحيث تكون المبادرة جزءاً من تصور استراتيجي للأمن الإقليمي بالقدر الذي يحدث بالفعل من تطبيقات للتعامل مع الأمن في الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. وببساطة، فإن ما هو واقع فعلياً من «اتحاد جمركي» بين فلسطين وإسرائيل يمكن التخلص من تشوهاته التي تضعه بشكل كامل في يد السلطات الإسرائيلية، وتحويل ذلك فعلياً إلى واقع ربما يفتح الباب لدولة واحدة أو اتحاد كونفدرالي أو صور مختلفة تعطي الاستقلال للفلسطينيين من ناحية، والقبول والأمن للإسرائيليين من ناحية أخرى. والحقيقة فإن دخول فلسطين وإسرائيل والأردن (بالإضافة إلى قبرص واليونان وإيطاليا) في منتدى الغاز لشرق البحر الأبيض المتوسط يفتح الباب لتخطيط الحدود البحرية لإسرائيل وفلسطين لأول مرة في التاريخ، وفي الوقت نفسه يفتح الباب لأشكال كثيرة من التعاون التي يمكن تطبيقها في مجالات أخرى. ولكن ربما كان أهم ما جاء في الورقة الفلسطينية، الدعوة إلى الاجتهاد والبحث في واقع القضية الفلسطينية، والخروج من ذلك إلى خطة سلام عربية ذات محتويات استراتيجية وسياسية واقتصادية.
فربما آن الأوان لكي نتخلص من العادات الشرق أوسطية التي تجعل الحل في يد الولايات المتحدة وحدها، أو ومعها روسيا والاتحاد الأوروبي؛ فقد كانت المرات التي تم فيها الحصول على الحقوق غير منقوصة تلك التي قام بالمبادرة بها الرئيس أنور السادات من مصر، والملك حسين من الأردن حينما كانت أصول الحركة مباشرة والكلام وجهاً لوجه، والحوارات تجري على المستويات الرسمية وغير الرسمية.
وبصراحة، فإنه يمكن مواجهة «صفقة القرن» ليس بصخب الرفض أو المقاطعة، وإنما بخطة أكثر شمولاً من ناحية، وإجراءات مطلوبة من ناحية أخرى مثل الحصول على تعهد إسرائيلي بعدم ضم الأراضي العربية المحتلة في الجولان أو في المنطقة «سي «C الفلسطينية، والإفراج عن المسجونين الفلسطينيين، وفي المقدمة منهم مروان البرغوثي، وبقدر ما في ذلك من بناء للثقة مع إسرائيل، فربما يكون فيه صلاح للساحة الفلسطينية!
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك