ما الذي تبحث عنه في منطقتنا الشرق أوسطية، خلال العام الذي انفتحت أيامه على مصاريعها؟ ما الذي تراقبه وتظنه يشكل تيارات حاكمة، ليس فقط في العام الذي جرت فيه، وإنما في الأعوام التي تليه؟ هل هناك دول بعينها فيها ما نبحث عنه من آمال؟ الأسئلة كثيرة في هذه النوعية من البحث المستقبلي؟
معهد بحوث الشرق الأوسط (MERI) طرح تتبع العراق في العام الحالي، وكانت أسبابه أن الدولة نجحت رغم كل العقبات والتغيرات والعنف والدماء، في عقد انتخابات قومية مرتين؛ والآن فإنها تقف في مفترق طرق، إما أن تستمر في عملية بناء الدولة، فتعبر الشروخ والفجوات القائمة بين الملل والنحل من ناحية، وتبني الدولة الوطنية من ناحية أخرى.
التحديات القائمة من أول الوجود المستمر لـ«داعش» رغم فقدانه قاعدته الإقليمية، وحتى النفوذ الزائد لإيران في البلاد، ضاغطة على الدولة ولا شك، ولكن الحفاظ على الوحدة، واستدعاء تراث الدولة بما لديها من إمكانات، يمكنهما نقل العراق من رجل المنطقة المريض إلى واحد من الفواعل الفاعلة، واللاعبين أصحاب القدرة في المنطقة بأسرها، والمشرق العربي بوجه خاص.
على أي الأحوال، فقد سبق في هذا المقام الإشارة إلى أن «الدولة» في الشرق الأوسط تستعيد عافيتها بدرجات مختلفة، وأنه رغم الوهن والضعف والاستعانة بالدول الأجنبية، فإن الأوقات الصعبة التي كان فيها بقاء الدولة ذاتها مطروحاً للتساؤل قد باتت خلفنا، وما نحن فيها هي عملية بناء لما انهدم، ورتق لما قطع.
هنا، فإن «لعبة الأمم» تُغير كثيراً من معطياتها التي قامت طوال العقد الراهن على المواجهة بين آيديولوجيات ومذاهب من ناحية، والمقارعة بين الدولة المتهالكة ومنظمات عابرة لحدود الدول الإقليمية، وأحيانا العالم، من ناحية أخرى. الآن وعلى شفا الدخول إلى العقد الثالث من القرن، فإن مثل ذلك آخذ إلى شحوب، ليس معنى ذلك انتفاء الظاهرة تماماً، وإنما تقدم الجغرافيا السياسية لكي تترجم حدود الدول إلى تصرفات، تحكمها اختيارات جديدة لها أصولها القديمة، ولكنها الآن لا بد لها أن تأخذ الثمن المدفوع في الاعتبار.
لتوضيح المسألة، فإن سلوكيات وتحركات كل من إيران وتركيا وروسيا خلال العام، خاصة مع ما يبدو من انسحاب وتراجع أميركي، تحكمها «الفرصة» لاستثمار أصول الوجود العسكري في سوريا خاصة، وترجمته إلى أصول جغرافية. إيران تريد ممراً واسعاً قدر الإمكان من العراق إلى البحر المتوسط في لبنان، وتركيا تريد وجوداً في شمال سوريا ينهي المعضلة الكردية مرة واحدة وإلى الأبد، ليس فقط في سوريا والعراق، وإنما في داخل تركيا أيضاً. روسيا تلاحظ أن قصة الانتصار على «داعش» وأمثاله، كانت قصة روسية بدأت بالتدخل العسكري المباشر، وانتهت بالخروج الأميركي، وترجمة كل ذلك أن يكون الوجود الروسي على البحر المتوسط عودة مرة أخرى إلى الاتحاد السوفياتي مرة أخرى، بمكانته العالمية ونفوذه المؤثر في المنطقة بأسرها، بما فيها ليبيا واليمن وفلسطين. ولكن الفرص عادة لا تأتي إلا وصاحبتها المخاطر، والدول الثلاث تدخل العام وحالاتها الداخلية منهكة سياسياً واقتصادياً، بإنفاق عسكري طال زمنه وكثرت ضحاياه، وأصبح الدور الإقليمي أو الدولي معادلاً في السياسة الداخلية، حيث يوجد كثير من الغضب على قيادات ضلت طريقها، ودفعت ثمناً كبيراً بلا عائد ملموس للمواطنين؛ بل إن النتيجة كانت استنزافاً بلا حدود.
إلى أي حد يمكن للدول الثلاث أن تقدم وسط هذه الحالة العون للعراق وسوريا، في إعادة التعمير وبناء المدن وعودة اللاجئين تبدو محدودة؛ بل إنها قد تكون سبباً لتعميق الغضب والمخاطر الداخلية؛ خاصة عندما تستمر أسعار النفط في حالتها المنخفضة بالنسبة لروسيا وإيران، ووجود بدائل أخرى للغاز الروسي ومعابره التركية إلى أوروبا.
كل ذلك سوف تكون له علاماته وإشاراته غير المقيدة بزمن العام، ولكنها تستحق المراقبة في كل الأحوال، خاصة لو أن أبراج المراقبة أسفرت عن استمرار الحيوية في العملية التحديثية السعودية، والإصلاحية الاقتصادية في مصر، والتَّماس بينهما بالمصالح والتحالف، في الطريق الممتد من البحر الأحمر إلى سيناء وخليج العقبة وقناة السويس وشرق البحر الأبيض المتوسط.
تحول الحيوية إلى عنفوان سوف يقيم معادلة جديدة في سماوات الشرق الأوسط، بداياتها داخلية، ولكن نتائجها خارجية، تكون إشاراتها التسوية اليمنية، وإعطاء الفرصة للعراق وسوريا للعودة إلى الصف العربي، وإعطاء المجال لدور عربي حقيقي في إعادة تركيب الأزمات اللبنانية والفلسطينية.
الثابت حتى الآن، أن العملية التحديثية في المملكة تتقدم كل يوم إلى الأمام فكرياً بإعادة اكتشاف التاريخ الوطني للدولة، بقدر ما يتم السير في بناء الاقتصاد الوطني، ما بين البحر الأحمر والخليج العربي. والثابت حتى الآن من ناحية أخرى أن عملية الإصلاح الاقتصادي في مصر تسير في اتجاهها المرصود من قبل المؤسسات الاقتصادية الدولية، وبات منتظراً أن تصل معدلات النمو إلى 6 في المائة خلال العام، ومعها فإن أبواب الاستثمار اعتماداً على بنية تحتية حديثة وواعدة يلفت الأنظار إلى ما هو أكثر. وما بين القاهرة والرياض، فإن «المنظومة العربية» تبدو بتحديثها وإصلاحها الاقتصادي تقدم لـلشرق الأوسط وعداً جديداً باحثاً عن الإعمار والاستقرار والسلام.
ولكن «لعبة الأمم» في الشرق الأوسط وراؤها تفكير بشر وقرارات قادة، وما يمكن مراقبته منها بدأ بعودة السفارات العربية إلى دمشق، ونتيجته الطبيعية في الشهور القادمة عودة سوريا إلى الجامعة العربية مرة أخرى، وتفعيل الدور العراقي فيها. ورغم ما هو مفهوم أن الدولتين مكبلتان بكثير من فواتير العقد الذي يوشك على الانسحاب، فإن العقد القادم سوف يأتي بعد عام وقد زادت أمامهما مساحة الاختيار والبدائل. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد عادت مصر إلى الصف العربي والجامعة العربية، ومعها معاهدة سلام مع إسرائيل، ومع ذلك فقد كان لها دورها في حرب تحرير الكويت، وعملية مدريد للسلام العربي الإسرائيلي. والآن لا تحتاج لا سوريا ولا العراق عقداً كاملاً من السنوات لكي يستردا مواقع ضاعت.
عام 2019 ربما تنبئ مصادره وأبراج مراقبته أنه سوف يكون عام تحضير وتجهيز واستكشاف، لإغلاق صفحات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وإحالتها إلى صفحات التاريخ الذي ذهب حزيناً ومؤلماً، وفتح صفحات عقد آخر يأتي فيه المستقبل أكثر أملاً ووعداً.
الحقيقة التي لا بد من بقائها في العقول والصدور، هي أن المنطقة قد تغير فيها الكثير، وعودتها إلى ما كانت عليه، فضلاً عن أن المياه لا تمشي في النهر مرتين، هو مزيج من المستحيل والحماقة. الأمر في الأول والآخر سوف يرتبط ليس فقط بالقدرات والحقائق الواقعة على الأرض، وإنما بالخيال والقدرة على المبادرة، وإبقاء كافة الخطوط مفتوحة، والإيمان القاطع بتصديق أننا الآن ندخل إلى قلب القرن الحادي والعشرين، ويجب ألا ندخله كأغراب أتوا ليس فقط من قرون سابقة، وإنما أيضاً من كواكب اندثرت.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك