بقلم - سمير عطا الله
كلما تأمل المرء في هذا العالم، ازدادت حيرته. ليس بمعنى الكواكب والمجرّات والفضاءات والنجوم التي نراها من هنا كل مساء وهي بعيدة عنا ملايين السنين. بل بمعنى هذا المخلوق الضعيف الذي لا يزال منذ اللحظة الأولى ينشئ من حوله الأوطان والدول والأمم، وبعدما يملأ الأرض عماراً ينكبُّ مثل طفلٍ شرير على تخريبها ودكِّها وإشعال الحرائق، وتحويل الحضارات الكبرى إلى مجرّد آثارٍ ورمال.
يخيّل إليَّ أن أعجب ظاهرة من ظواهر هذا العالم كان اكتشاف الولايات المتحدة، ومن ثم بناء أهم دول الأرض فوق تلك المساحات الجرداء الخالية تقريباً من الناس. هاجر ملايين الأوروبيين إلى بلاد كولومبوس بحثاً عن الرزق والشبع، ومن بعده الذهب أيضاً. وكان هؤلاء في أغلبيتهم الساحقة من دون أي كفاءة على الإطلاق سوى طاقاتهم الجسدية وحماسهم للبحث عن حياة أفضل. وفي هذا المعنى يمكن القول إن أميركا مثل كندا وأستراليا ونيوزيلاندا، بلادٌ صنعها المحكومون والمدانون والخارجون على القانون الذين أرادت الدول الإمبريالية الخلاص منهم في أراضيها.
ربما لا يزال كتاب اليكسيس دو توكفيل عن انطباعات ذلك الشاب الفرنسي في رحلته الأميركية، أهم ما كُتِب عن تشكيل تلك القارة وقد أصبح كتابه «الديمقراطية في أميركا» مرجعاً حتمياً لجميع الدارسين في أعماق تلك الظاهرة.
من أفضل ترجمات الكتاب إلى العربية تلك التي وضعها الدكتور أنطون غطاس كرم، أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية، وكان تضلّع الدكتور كرم في العربية مثل شك الجواهر أو تطريز الماس، بحيث يبدو النص الأصلي بين يديه وكأنه من صياغته أيضاً. وإذ أعود اليوم إلى قراءته أتنبّه للمرة الأولى إلى حدثٍ نادر في حكاية توكفيل للقصة الأميركية. فهذا الرحّالة ذو العيون الخارقة، يتوقف في ولاية «نيو إنغلاند» ليلحظ شيئاً شديد الاختلاف
. هذه ولاية مهاجروها جميعاً من غير المحكومين والمطلوبين. جلّهم من الطبقة الوسطى المتعلّمة، وبعضهم من ورثة المال والأعمال والشركات. دوّن هذا الكلام نحو عام 1835. واليوم لم تعد «نيو إنغلاند» وحدها ولاية الفكر والمثقفين. لكنها لا تزال بوجود هارفرد وM. I. T. طليعة الثقافة والعلم في الولايات المتحدة. أرادها المؤسسون نسخة عن «إنغلاند القديمة» وكان لهم ما أرادوا.
يقول توكفيل: حمل المهاجرون الآخرون معهم المغامرات «أما هنا فجاؤوا ومعهم العلم والثقافة والقيم وحب المعرفة والتقدّم الأوروبي. والفارق الآخر أنهم جاؤوا بملء خيارهم وليس لحاجة أو ضرورة. وكانت غايتهم الأولى تفوّق الأفكار وليس الأجساد».
عثر المهاجرون الآخرون على الذهب وفي ولايات مثل تكساس. اكتشفوا الذهب الأسود، أو النفط، وبعض الولايات منحتهم حقولاً هائلة للزراعة والحنطة. أما «نيو إنغلاند» فبقيت «المثلّث الذهبي» في الفكر والعلوم وأحياناً في السياسة عندما تُعطي رجلاً مثل جون كنيدي.
نقلا عن الشرق الأوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك