بقلم - سمير عطا الله
تقع مذكرات خليل الروّاف «صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث» (دار جداول) في نحو 700 صفحة. ولقد تحيّرت في الكتابة عنها. فأي عرضٍ عادلٍ لها يتطلب على الأقل عشر حلقات، لكنك سوف تكتشف بعد الحلقات العشر أنك ظلمت خمسين حلقة لم تعرضها. كلُّ صفحة لها أحداثُها وعالمها ومتعتُها.
فهذا البدوي لم يكتفِ بالترّحل في بوادي العرب، من نجد إلى اليمن إلى سوريا، بل سوف نراه في الولايات المتحدة متنقلاً من ولاية إلى أخرى في الثلاثينات، متوقفاً في هوليوود حيث يشارك في تمثيل بعض الأفلام التي يؤدي فيها دور العربي بالتأكيد. ثم نراه في سان فرنسيسكو، أو في ولاية أيوا، أو في مدينة كليفلاند، أو في نيويورك، وفي كل هذه المدن يدعو إلى الإسلام ويقيم المدارس الإسلامية، ثم نراه في هارلم، الحي الشديد الصعوبة في تلك المرحلة، لكن الروّاف يؤسس فيه مدرسة إسلامية أخرى.
وعندما تأتي الحرب العالمية، يصبح شيخ العقيلات جندياً في الجيش الأميركي. ولمّا كان عليّ أن أختار فصلاً واحداً من هذه الملحمة الممتعة في الديار والأمصار، فربما كانت الحكاية الأكثر درامية في هذه «الألف يومٍ ويوم»، قصة نواف الابن الأكبر لخليل من زوجته الأميركية الأولى. فلما كان نواف في الشهر الثامن من عمره وقع الطلاق بين الأب والأم. وبموجب القانون الأميركي حُكِمَ للأم بالحضانة.
ومن ثم ضاع خليل في متاهات أميركا وتزوجت مُطَلِّقَتَهُ من رجل آخر وضاعت عليه رؤية نواف. في هذا الوقت نشأ نواف في عالم مختلف. وقد حملته أمه مع زوجها الجديد إلى بريطانيا. ولما كبر عاد إلى الولايات المتحدة، حيث أُجبرَ على الخدمة في حرب فيتنام. وحين بدأ خليل حملة البحث عن أثر الابن الحبيب قيل لهُ تفقَّد لائحة القتلى والمفقودين في فيتنام فربما كان بينهم. لكنّه حمد الله على أن اسم نواف لم يَرِد في تلك اللائحة.
بدأ خليل الرواف حملة أخرى متشجعاً هذه المرة بمساعدة ابن شقيقه الدكتور عثمان، الذي كان يدرس في الولايات المتحدة. تنقّل عثمان وعمّه في المدن والولايات.
وأخيراً توفقا إلى مكتب تحرياتٍ في واشنطن الذي بعد أسابيع قليلة من البحث عاد إليهما بعنوان ورقم هاتف نواف، الذي أصبح اسمه منذ زمنٍ المستر كلايف. ارتجف الأب فرحاً وفزعاً.
هل يتصِّل بالابن فوراً، أم يكتب إليه، أم يكلِّف عثمان بالتقديم؟ وبعد ترددٍ، رفع سماعة الهاتف وقال لصاحب الصوت على الطرف الآخر: «نواف هذا أنا والدك خليل».
صُعِقَ نواف بدوره وخُيِّلَ إليه في البداية أنه في حلم. وعندما صحا اتفق مع والده على اللقاء بعد أيام. عندما احتضن خليل الرواف ابنه البكر كان قد أصبح في الخامسة والتسعين من العمر.
مضى خمسةٌ وأربعون عاماً على الفرقة بين الأب والابن. وامحى ظلم الفراق بلحظة واحدة.
نقلا عن الشرق الوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك