بقلم - سمير عطا الله
يفرق اللبنانيون كل شيء. السياسة، والرياسة، والأحزاب، والانتخابات، والأعياد، والعطل الدراسية، وتجمع بينهم الأحزاب والجنازات. كان يُفترض، في بروتوكولات لبنان، أن مي منسى، ناقدة أدبية فنية في «النهار» وروائية معروفة.
لا أتذكر حزناً جماعياً كالذي وُدِّعت به مي. الدولة والحكومة والمعارضة تسابقوا على نعيِها. واللامبالون الذين لا تسقط منهم كلمة طيبة على الأرض حتى بطريق الخطأ، أرغمهم موتها على ذرف دمعة من الحبر. والصحف نعتها في صفحاتها الأولى حيث تنعى كبار الشخصيات، بالمفهوم اللبناني للوجاهة والمال.
امتلأت «النهار» بصفحاتها بصورها وما كُتب عنها، كما لم يحدث لأي محرر من قبل. عوملت مثل أصحاب الصحف ورؤساء التحرير. ولُفَّ نعشها بالعلم والأوسمة والجوائز التي حازتها. وعزفت لها الموسيقى الرسمية والنشيد الجنائزي. وتوافد المعزون من كل الطوائف وجميع الأمكنة.
ماذا كان يميّز مي منسى؟ ابتسامتها. كانت تبتسم للغاضبين وللفرحين وللسعداء وللفقراء، وللخطأة وللفاشلين، ولكل من ظهر أمامها. وكنا جميعاً نعرف أن جروحها قديمة ولا تلتئم. وأن رواياتها فصول من سيرة ذاتية بلا نهايات. عاشت معها أمها في طفولتها وفي صباها وبعد موتها. وأمس عندما ماتت هي، اكتشف الجميع أنها أوصت بأن تُدفن إلى جانب أمها في بشري، على بعد ثلاث ساعات من بيروت.
عرفتُ مي، جارة لنا، منذ أيام المراهقة. ولم أكن أدري أنها سوف تحوِّل شجرة الرمان التي أمام منزلهم إلى بطلة في رواياتها. أو «ماكنة الخياطة» التي تعمل عليها أمها. وكان المنزل يخفي حزناً لا يعرف به أحد. فلم نرَ مي أو شقيقاتها مرة بلا ابتسامة. ولم نلتقِ والدها في الطريق إلا باسماً ودوداً. وعندما التقيناها في «النهار» بعد سنوات، متزوجة من الزميل كميل منسى، كانت ابتسامتها قد كبرت معها.
غطت مي في «النهار» كل ما هو مرهف. مسرح وسينما موسيقى ورسم. ولم تكن في حاجة إلى أن توقع لكي تعرف أن هذا العنوان عنوانها، وذاك النص أسلوبها، وتلك المفردات، تطريز، بقي في لا وعيها من أيام «ماكنة الخياطة» وشجرة الرمان.
وحَّدت مي ببساطتها وابتسامتها، كل لبنان، 8 و14 آذار والرزمانة بكل أيامها. في حياتها وفي وفاتها. من دون جهد ومن دون عمد. اطفأت جميع أحزانها خلف ابتسامة متأهبة على الدوام. وأرغمت كل من عرفها أن يعاملها بابتسام، وأن يروض نفسه أمام وداعتها. لقد هزمت بها الجميع.
أرسل تعليقك