بقلم - عماد الدين حسين
الكلمات التالية ليست عن رثاء محمد حسنين هيكل الصحفى والإنسان فقط، ولكن عن القيمة التى كان يمثلها هذا الرمز الاستثنائى لمهنة الصحافة والإعلام فى مصر والمنطقة العربية.
يطول الحديث عن هيكل الإنسان، الذى تحل ذكرى رحيله الثالثة عن عالمنا اليوم. ويطول الحديث عن نبوغه وتفرده الصحفى ليس فقط مصريا وعربيا، ولكن عالميا.
لكنى سأركز اليوم على نقطة محددة، وهى افتقاد الساحة الصحفية المصرية والعربية لقامة مثل هيكل فى مثل هذه الايام تحديدا، هذه القامة كانت تمثل المنارة أو النبراس أو البوصلة للجماعة الصحفية.
مثلما كان لهيكل أنصار كثيرون بل ودراويش، فقد كان له خصوم ومعارضون ومنتقدون أيضا، لكن معظم هؤلاء كانوا لا يختلفون على موهبته ورؤيته الثاقبة.
لا أؤمن بالدروشة أو بتأليه البشر، مهما كانت أدوارهم أو قيمتهم، لكن أؤمن أكثر بمدى تأثيرهم فى محيطهم، وقدرتهم على قيادة الجماعات والشعوب فى لحظات الارتباك والفوضى والأزمات التى تبدو مستعصية والظروف التى تبدو حالكة.
قيمة هيكل التى أقصدها أنه كان يحظى باحترام وتقدير الجميع، حتى أولئك الذين أختلف معهم جذريا.
جماعة الإخوان كانت تختلف معه، بل وتعاديه منذ ثورة 23 يوليو 1952، ورغم ذلك سعوا بكل الطرق للجلوس معه والاستماع إلى رأيه حتى قبل ثورة 25 يناير 2011، بل والتقاه مرسى فى الاتحادية. لكن حينما أدركوا تأثيره، قاموا بإحراق منزله فى برقاش بصورة همجية، أثرت فيه كثيرا، وتركت فى قلبه جرحا غائرا، خصوصا بسبب الكتب والوثائق التى التهمتها النيران.
خرج الإخوان وجاءت ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، ونذكر أن هيكل استقبل غالبية قادة هذه الثورة واستمع إليهم ونصحهم.
نتذكر أيضا الحلقات التليفزيونية المؤثرة لهيكل مع الإعلامية لميس الحديدى على قناة «سى بى سى»، وكيف كانت هذه الحلقات مرشدا ودليلا للناس، لكى يعرفوا ويفهموا ما يحدث، وما ينبغى أن يحدث، ونتذكر أكثر تحذيره القاطع فى آخر الحلقات، حينما قال
«إن لم نتغير نوشك أن نخرج من التاريخ».
اليوم فإن مهنة الصحافة والإعلام فى مصر، تمر بواحدة من أصعب الفترات والمحن، ربما فى تاريخها الحديث. هناك مشكلة تخص الصناعة بسبب ارتفاع أسعار الورق ومستلزمات الطباعة، وهناك مشكلة تخص تراجعا خطيرا فى إيرادات الإعلان المحرك الرئيسى للصناعة، وثالثا هناك مشكلة أصعب تتمثل فى تراجع غير مسبوق فى الحريات. وبالتالى فإن المشكلات الثلاث السابقة مجتمعة، قادت إلى تراجع غير مسبوق فى المحتوى، الأمر الذى جعل غالبية القراء ينصرفون عن هذه الصحف.
ما زلت أعتز كثيرا برسالة أرسلها لى الأستاذ الكبير فى ذكرى تأسيس «الشروق» فى الأول من فبراير عام ٢٠١٥ قال فيها ما خلاصته أن دور الصحافة المطبوعة، ينبغى أن يقدم شيئا مختلفا فى تعميق الأخبار والآراء، بعد أن صار الخبر العادى «محروقا» فى الصحافة الإلكترونية والقنوات الفضائية.
كان الرجل واضحا تماما، فى أن المحتوى هو الأساس لأى وسيلة إعلامية، خصوصا الصحافة المطبوعة. كان أكثر انحيازا لأهمية الخبر والمعلومة، ويتذكر كل من يعرفه السؤال الشهير الذى كان يبدأ به حديثه مع كل أصدقائه وتلاميذه ومعارفه ومصادره وهو «إيه الأخبار؟!»
اليوم للأسف الشديد تختفى الأخبار الحقيقية لأسباب متعددة يطول شرحها، ويختفى معها الشرح والتحليل والتعميق للأسباب نفسها وبالتالى، فقد كان طبيعيا أن تتراجع المهنة والصناعة، والأخطر تراجع مستوى الموهبة والكتابة واللغة، بصورة غير مسبوقة.
ليس كل ما سبق بكاء على الإطلال، أو رثاء لرمز كبير يستحق ما هو أكثر، ولكنه رثاء لحال مهنة تشهد تراجعا غير مسبوق، يهدد دورها وتأثيرها مصريا وعربيا.
نتمنى أن يكون هذا الحال، الموضوع الأول على جدول اهتمامات وبرامج المرشحين فى انتخابات نقابة الصحفيين بعد أيام من الآن. لا نلوم إطلاقا من يهتم بـ«البدل» والأوضاع الاقتصادية والخدمية بسبب «صعوبة المعايش»، ولكن علينا أيضا أن نهتم بحال المهنة أولا، لأنها لو تراجعت، فسوف يتراجع كل شىء.
رحم الله الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك